يُقصد بالضّمير الإنسانيّ إدراكُ البشر لقيمهم الإنسانيّة المشتركة، وقيمهم الأخلاقيّة الثّابتة التي تحدّد موقفهم من الظّلم والعدوان، وتدفعهم لنصرة المظلومين والمستضعفين والتّعاطف معهم ودفع الظّلم عنهم. وقد أعلنت الأمم المتّحدة، في يوليو 2019 أنّ الخامس من أبريل من كلّ سنة، هو اليوم العالميّ للضّمير.
وقد أيقظت الحرب الإسرائيليّة الوحشيّة على غزّة الضّمير الإنسانيّ العالميّ، وبعثت الكينونة الإنسانيّة من مرقدها، فانتعشت بشكل غير مسبوق، وانتفضت حيّة وقد كان من قبلُ معتقَداً مواتُها. وإنّ التّعاطف الكبير والمساندة المعنويّة الكبرى التي عبّرت عنها شعوب العالم، على اختلاف انتماءاتها الثّقافية واللّغوية والجغرافيّة، إزاء الإبادة الجماعيّة في غزّة المحاصَرة ليدلّ دلالة واضحة على أنّ الكينونة الإنسانيّة بخير، وأنّ قُوى الشّر والفساد في العالم، لم تستطع بعدُ، طمس هذا الضّمير الإنسانيّ وإفساد هذه الكينونة الإنسانيّة.
ومن الأوصاف البارزة في تعبير هذا الضّمير الإنسانيّ العالميّ، على مستوى الشّعوب أو الجماعات أو الآحاد، عفويّتُه الظّاهرة ولغته الواضحة ووَعْيُه العميق، وموقفه البَيّن المتعاطف مع الفلسطينيين في معركتهم ضدّ الاحتلال الصّهيوني والفاضح لجرائمه الشّنيعة. والذي أعلنته شعوب العالم وصاحت به حناجرُها، وأكّدته أفئدتُها في الشّاشات والمظاهرات، وفي الوسائط المتعدّدة والمواقع المختلفة، وفي الملاعب واللّقاءات وفي كلّ المناسبات هو أنّ الذي يتعرّض له الفلسطينيّون هو إبادة جماعيّة، وهو ظلم كبير فوق الطّاقة ويفوق الاحتمال، وأنّ الفلسطينيين كغيرهم من شعوب الأرض، من حقّهم الدّفاع عن أنفسهم واستعادة أرضهم ومحاربة الاحتلال الذي اغتصب أرضهم منذ 75 سنة.
والسؤال الذي يقف أمامنا الآن هو: ما الذي جعل هذا الضّمير الإنسانيّ ينتعش، ويعبّر عن وجوده بهذه المظاهرات الضّخمة، وهذا الحضور القويّ على المستوى العالميّ؟ وما الذي جعل الكينونة الإنسانيّة تنتفض حيّة، في كلّ مكان، وتعبّر عن رفضها الكبير لإبادة الفلسطينيين، وتفضح جرائم الاحتلال الصّهيوني في غزّة، وفي كلّ فلسطين المحتلّة؟
لا شكّ أنّ هناك عوامل مختلفة كانت حاسمة في صحوة هذا الضّمير الإنسانيّ العالميّ، وفي صناعة هذا الموقف العالميّ الموحَّد لشعوب الأرض ضدّ الهمجيّة الصّهيونية، وجرائم النّازيّين الجُدد والدّول الغربيّة الاستعماريّة المتواطئة معهم. ولكنّي سأقف في هذا المقام، عند عامل واحد أراه مستحقّاً للذّكر والتّوضيح لخصوصيّته وعظيم شأنه، وهو الصّمود الذي تحلّى به الفلسطينيّون في مواجهتهم لهذه الهمجيّة الصّهيونية التي تتنزّه عنها الحيوانات الوحشيّة. وفي ما يلي ذكرٌ لهذا الأمر وإضاءة له.
الصّمود الأسطوريّ الذي ينكسر عليه العدوان
إنّ الصّمود الذي تحلّى به الفلسطينيّون العُزَّل المحاصَرون في غزّة بكلّ فئاتهم العُمْريّة، في مواجهة آلة الموت الإسرائيلية أكثر من أربعين يوماً، رغم قطع الإمدادات الضّروريّة للحياة كالطّعام والماء والدّواء، وسقوط آلاف الضّحايا وجثث الأطفال والخدج، والقتل الأعمى والدّماء والأشلاء، ورغم الهدم والخراب والدّموع والأحزان، والقصف اليوميّ الذي يطاردهم في يقظتهم ومنامهم ثمّ خروجهم من تحت الأنقاض صائحين بقوّة وفي كبرياء: سنبقى صامدين ولن ننكسر، وهاتفين بتأييدهم لمقاومتهم الباسلة، ومصمّمين على البقاء في أرضهم مَهما كان عدد الضّحايا، وحَجم الخسائر وهَوْل الإصابات…هذه المشاهد الحيّة القويّة هي التي تعطي لهذا الصّمود الفلسطينيّ معنًى خاصّاً فتجعله صموداً أسطوريّاً قلّ نظيرُه يَلفت الانتباه، ويستوجب التّفكير ويدعو إلى التّدبر.
إنّ هذا الصّمود الأسطوريّ ليس كَمِثله شيء؛ لأنّه صمود مرتبط بالحالة الفلسطينيّة،عموماً وهو مرتبط أيضاً بحال غزّة خصوصاً: فقد اغتُصبت فلسطين وطُرد شعبُها وقامت دولة إسرائيل بالقوّة والإكراه الدّوليَّين، في 14 مايو 1948، وهي سنة الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وظلّ الفلسطينيّون مدّة 75 سنة تحت الاحتلال الإسرائيلي يعانون الإبادة الجماعيّة والقهر والقتل المنظَّم والنّفي والتّوسع الاستيطاني الذي يلتهم أراضيهم وممتلكاتهم. أمّا غزّة فقد تعرّضت لستّ حروب إسرائيليّة، وهي تعاني نتائج الحصار المدمّر منذ 17 سنة محرومةً من كلّ أسباب الحياة الكريمة التي تليق بالبشر، وتوضيح الأمر بهذا الشّكل يُعيننا على فهم طبيعة هذا الصّمود الفلسطينيّ الأسطوريّ، واستبانة جذوره وصوره، وتتبّع تدرّجه وتطوّره وملاحظة مراتبه ودرجاته ويعطي في الوقت نفسه، للقضيّة الفلسطينيّة الشّرعية المطلقة، ويجعلها تحظى بكلّ المعاني النّبيلة والدّلالات.
الصّمود: الأصل اللّغوي واشتقاقاته
ولفهم هذا الصّمود والإحاطة بمعانيه القريبة، ودلالاته البعيدة يتعيّن علينا العودة إلى المادّة اللّغوية الأولى لهذه الكلمة، واستحضار معانيها. تذكر المعاجم العربيّة أنّ "الصّمود" مصدر من فعل صَمَد يَصْمُد صُموداً، ومعناه: ثَبَت واستمرّ متحمِّلاً. ولكنّنا نجد في "القاموس المحيط" للفيروزآبادي معاني أخرى دقيقة وعميقة لمشتقّات مختلفة لمادّة "صَمَد"، تُعيننا على اكتناه هذه اللّفظة، والإحاطة بإشعاعاتها المختلفة.فمن هذه المعاني قوله: ( الصَّمْدَة ) هي صخرة راسية في الأرض مستوية بها أو مرتفعة. وقوله: "المُصَمَّد" هو الشّيء الصّلب ما فيه خَوَر. وقوله أيضاً: "الصَّمَد" هو الرّجل الذي لا يعطش ولا يجوع في الحرب.
فإذا قُمنا بتلخيص ما سبق يحصل عندنا، أنّ مادّة "صَمَد" اللّغوية ومشتقّاتها المذكورة تدلّ على جملة من المعاني كالثّبات والقوّة والصّلابة والتّحمل والاستمرار… وتدلّ أيضاً على بعض المحسوسات التي تتضمّن المعاني السّابقة كالصّخرة الرّاسية أيْ الرّاسخة التي لا يستطيع أحَدٌ تحويلها لعِظمها، أو المقاتل الذي لا يعطش ولا يجوع في الحرب.
الصّمود: ماهيّته وأبعاده
لقد أصبحت كلمة الصّمود مصطلحاً تتوزّعه اختصاصات علميّة مختلفة كالفيزياء، وعلم النّفس والجيولوجيا… ففي الفيزياء، مثلاً، يدلّ الصّمود على قدرة مقاومة المادّة أو الجسم للصّدمة أو التّشوه، أو هو قدرة المادّة أو الجسم على امتصاص الصّدمات عن طريق التّشوه. ويمكن التّعقيب بالقول، إنّ الصّمود هو القدرة على مقاومة الصّدمات المؤلمة. ولكنّ هذا التّعريف يظلّ ناقصاً لتضمّنه معًنًى سلبيّاً أو معًنًى ناقصاً للصّمود. ولتوضيح هذا الأمر ينبغي الإضافة بأنّ الصّمود ليس حالة سلبيّة ساكنة، وإنّما هو حالة إيجابيّة ديناميكيّة. فالجهة التي تتعرّض للضّغط أو الاعتداء، فرداً كانت أو جماعة، ستستحدث آليّات للدّفاع والمقاومة ثمّ تنتقل شيئاً فشيئاً، إلى التّكيف مع هذا الضّغط والاعتداء وفي الخطوة الثّالثة، قد تُغالبه وتتجاوزه، فتحقّق نوعاً من القوّة والتّحكم والنّمو والانتعاش وفي هذه الحال يصبح الصّمود هو الصّخرة التي تنكسر عليها كلّ الاعتداءات، وهو النّواة الصّلبة التي تتأبّى على الخضوع والمطاوعة والاستسلام.
وقد يبلغ الصّمود درجاته العُلَى حين يزداد العدوان دمويّة وهمجيّة فتتصاعد في الجهة المقابلة، درجات الصّمود والتّأبّي ورفض الانكسار، وفي هذه الحال تكون الجهة المعتدية قد انهزمت فعلاً؛ لأنّ كلّ قوّتها وجبروتها لم يحقّق لها ما كانت تستهدفه وتبتغيه، وهو تحقيق الهزيمة والانكسار في الجهة المقابلة، وحينئذ يصيبها الارتباك الذي يُفقدها توازنها فيُخرج سلوكها عن حدود الإنسانيّة والمعقوليّة والاتّزان.
وإذا عُدنا إلى غزّة المحاصَرة وأهلها الصّامدين، يمكننا تأكيد أمرين اثنين: الأمر الأوّل أنّ هناك صموداً فلسطينيّاً خالصاً يتحقّق اليوم في غزّة ليس له مَثيل في العصر الحديث: يبصر العالم على المباشر، كبرياءه وتحدّياته ويتابع بطولاته وإنجازاته. وكأنّ الإنسان الفلسطينيّ المحاصَر في غزّة، بصموده الأسطوريّ، قد تحقّق فيه وَصفُ "الصَّمَد". والصَّمَد من الرّجال هو الذي ليس فوقه أَحَدٌ كما يقول ابن منظور في معجمه "لسان العرب".
أمّا الأمر الثّاني، فإنّ أهل غزّة المحاصرين بصمودهم الأسطوريّ، قد انتقلوا من حال إلى حال فحقّقوا درجات عُليا من الثّبات والنّصر الأخلاقيّ على الصّهاينة الدّمويّين.وهذا الصّمود الأسطوريّ، مضافاً إليه هذا النّصر الأخلاقيّ الذي حقّقه أهل غزّة، هو الذي أيقظ الضّمير الإنسانيّ العالميّ لأنّه يخاطب فيه إنسانيّته العميقة التي ترفض الظّلم والعدوان، وهو الذي جعل أيضاً أفئدة من شعوب العالم تأوي إليهم وتناصر قضيّتهم؛ لأنّ الذي يوحّد الإنسانية غالباً هو الشّعور بالآلام والعذابات الذي يهزّ الأعماق، ويصل إلى الفطرة الإنسانية السّوية فيُزعجها ويُقلقها فتنتفض حيّة رافضة ثائرة.
وإنّ هذا التّعاطف العالميّ الكبير، على اختلاف ثقافاته ولغاته وألوانه، إنّما وَحَّد موقفَه أيضاً، هذا الصّمودُ الرّافض للظّلم والعدوان الذي يشعر به كلّ إنسان حرّ بين جوانحه وفي حناياه، ويراه في غزّة، مجسّداً أمامه في أبْهى صوره وأرقى معانيه لدى شعب أعزل يتعرّض للإبادة الجماعيّة على يد الاحتلال الإسرائيلي مدّة أربعين يوماً بل تزيد، متأبَّياً على الخضوع والانكسار، ومستعصياً على كلّ محاولات النّفي والتّهجير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.