لا شك أن الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والذي أطلقت عليه اسم "طوفان الأقصى"، يعدُّ واحداً من أشد الصدمات وطأة في تاريخ الاحتلال الاسرائيلي الحديث. وقد منحت حكومة الاحتلال الإسرائيلي نفسها حقَّ تنفيذ "العدالة" والتصرف بناءً على "الشرعية" التي زعمت أنها تُناسب الرد على صدمة كبيرة كهذه، فحكمت على غزة وأهلها بالخراب والتدمير، وأعملت فيهم المذابح غير المسبوقة على مدار 40 يوماً. وعلى الرغم من أن قطاع غزة مكان "مألوف" -مع الأسف- لهجمات جيش الاحتلال، فإن هذا لم ينحُ به إلى شيء من التمييز في عدوانه، بل استهدفت الهجمات أكثر الأهداف المدنية حساسية، مثل المستشفيات وسيارات الإسعاف ومخيمات اللاجئين، حتى بات الجميع يسأل مستنكراً: "هل بقيت قيمة إنسانية لم تُنتهك في هذا العدوان؟!"، ولا يسعنا إلا أن نردد السؤال.
إن وحشية إسرائيل ليست بالأمر غير المعهود، ولكن وحشيتها هذه المرة بلغت من الشدة حداً لم تبلغه من قبل. والأمر هنا لا يقتصر على شدة الدمار الواقع على غزة، وضخامة القوة التدميرية للقنابل التي ألقيت، وتفاقم عدد الضحايا المدنيين، بل زاد على ذلك طبيعة الخطاب الذي استخدمه المسؤولون الإسرائيليون وتطرف تصريحاتهم، وعلى رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فقد اختلفت هذه الخطابات والتصريحات عن أي شيء عهدناه من قبل.
منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان الخطاب الذي استعمله نتنياهو أكثر ميلاً إلى "النزعة الدينية" من أي خطاب استعمله طوال مسيرته السياسية. فقد استعان مراراً وتكراراً باقتباسات وإشارات إلى الكتاب المقدس، سواء في الخطاب الذي يريد به رفع الروح المعنوية للجيش، أم في خطابه العام، أم في الرد على الأسئلة التي يواجهها من الصحفيين وغيرهم. وإذا استحضرنا ما نعرفه يقيناً من أن نتنياهو "بعيد عن التدين" في حياته الخاصة وفي مسيرته السياسية، لكنه بات الآن لا يكاد يستقيم له خطاب من دون الرجوع إلى الكتاب المقدس، فإننا ندرك دليلاً آخر على الطبيعة غير العادية لما نمر به من أحداث. ولا شك أن نتنياهو لديه ما يخصه من أسباب براغماتية تدفعه لـ"التماس نزعة التدين" هذه. ولكن الخطر المحدق هنا هو انتهاك الخط الدقيق الذي يفصل بين استدعاء "النزعة الدينية" والاستنفار الشامل لـ"التطرف الديني" (Radicalization) في الساحة السياسية الإسرائيلية.
أخذت السياسة الإسرائيلية تميل باطراد نحو تيار يمين الوسط منذ مناحم بيغن في سبعينيات القرن الماضي، حتى بلغت هيمنة التيار اليميني ذروتها بعد تشكيل نتنياهو حكومته الحالية التي وصفت بأنها أكثر الحكومات يمينية والأكثر دينية والأكثر راديكالية في تاريخ إسرائيل. فمن المعروف -على سبيل المثال- أن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير من المعجبين المخلصين بالمتطرف اليميني باروخ غولدشتاين الذي ولد في مدينة بروكلين الأمريكية وكان يؤمن بأن الإبادة الجماعية للفلسطينيين "أمر إلهي". واشتهر غولدشتاين بقتله 29 فلسطينياً وهم يصلون فيما عُرف بمذبحة "الحرم الإبراهيمي" في عام 1994، وما فتئ بن غفير يرفع من شأن غولدشتاين، وارتدى مثله أكثر من مرة في "عيد المساخر" اليهودي، وعلَّق صورة له في غرفة المعيشة بمنزله حتى عام 2020. وفي أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أشرف بن غفير بنفسه على توزيع الأسلحة بين المستوطنين في الضفة الغربية لحثِّهم على ترهيب الفلسطينيين وقتلهم ظلماً وعدواناً.
ومن الواضح أنه ما دامت هذه الحكومة قائمة، فإن إسرائيل لم تقف عند حدود ادعائها الدفاع عن النفس، ولا تستشعر إلزاماً يجعلها تتحلى بالمسؤولية في تصرفاتها، بل تتحرك بناءً على دوافع الانتقام والعقاب الجماعي والإبادة، وتتصرف كأنها تنظيم جامح أكثر من كونها دولة احتلال. فالقادة والجنود المشاركون في الحرب على غزة، كلهم يضفون الشرعية على أعمالهم هذه، واستنفار المزيد منها بالاستناد إلى الكتاب المقدس. ففي سياق التعليق على قصف غزة، قال نتنياهو: "في الكتاب المقدس، يقول لنا الرب: (تذكر ما فعله العماليق بك)، ولذلك فإننا نتذكر ونقاتل". ويوصف العماليق في كتاب صموئيل من العهد القديم، بأنهم قبيلة قديمة هاجمت بني إسرائيل على حين غرة أثناء نزوحهم الجماعي من مصر. ويورد الكتاب أن الرب غضب أشد الغضب من هذا الهجوم المفاجئ والوحشي على بني إسرائيل، فأمر الملك شاول، عن طريق النبي صموئيل، بذبح العمالقة وإعمال القتل فيهم بلا وازع. ويحث النص صراحة على قتل "النساء والرجال والأطفال والرضع والماشية والأغنام". وعندما أنقذ الملك شاول حياة ملك العمالقة وبعض الحيوانات، ناله غضب الله، وأنكره صموئيل النبي، ونُزعت عنه نعمة الله.
وعلى الرغم من أن الأدبيات اليهودية السائدة تميل إلى التأويل المجازي لقصة العماليق، فإن بعض التفسيرات الحرفية ترى أن أمر الرب كان عقاباً مقتصراً على العماليق وحدهم. وبالنظر إلى أن العمالقة قد اختفوا ولم يعد لهم وجود اليوم، فإن هذه الأوامر لم تعد نافذة في أحد. ومع ذلك، فإن كثيراً من اليهود اليمينيين المتطرفين يؤمنون بأن عماليق الكتاب المقدس هم فلسطينيو اليوم. ولهذا، فإنهم ينتشرون بين المستوطنين الإرهابيين الذين يقتلون الفلسطينيين بلا جريرة؛ وبين جنود جيش الاحتلال الذين يهاجمون غزة براً وبحراً وجواً، ولا يرقبون في الأطفال الفلسطينيين رحمة.
والخلاصة أن ذلك الكتاب المقدس وأوامره قد تحولت إلى دافع وذريعة "شرعية" لارتكاب الإبادة الجماعية بين الفلسطينيين. وقد حرص الحاخامات اليهود بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول على زيارة قواعد الجيش وسرد قصة العماليق على الجنود، لكي يضمنوا ألا يتوانى مقاتلو جيش الاحتلال في تنفيذ وصايا الكتاب المقدس. أما من لم يكونوا يعرفون قصة العماليق، أو من لم يكونوا يتبعون تفسير اليمينيين المتطرفين لها، فإن نتنياهو تكفل عمداً بالإشارة إليها، وشبَّه هجمات العماليق بهجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وغايته من ذلك أن ينتشر هذا التفسير المتطرف، وأن يصبح القتل هائلاً وممنهجاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.