ويبقى العقل هو مشكلة الحداثة الأوروبية، ومع العقل انكشفت أسطورة التنوير وأُعيد النظر بطبيعة المشروع الذي انتهى في زمن الحداثة. كان مشروعاً أشبه بأسطورة يتمركز فيها العقل ويصبح الإنسان هو المحرك الرئيسي لذلك العقل المتمركز حول الإنسان. وبالعقل جادل هوركايمر وأدورنو مفهوم التنوير واستنطقا العقول الغربية بحثاً عن مفهوم مشروع التنوير وحقيقة ذلك العقل. ليس هذا فحسب، بل حاولا تفسير معاداة السامية وبروز النازية في ألمانيا من منظور عقلي يسائل بنقد وعقلانية عن ذلك العداء.
وبنفس ذلك العقل كتب هابرماس بيان التضامن، ودافع عن مشروع أساتذته وتراث مدرسته النقدية، ويواصل دفاعه عن الحداثة ذاتها؛ إذ سبق أن أعلن أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد، هو أكد أن الحداثة مشروع وليس حقبة تاريخية، فهي أفكار وثقافة متواصلة. بيد أن مشروع الحداثة لم يتحقق وانقلب العقل إلى عقلانية أداتية، وتم استغلال الإنسان والسير به نحو الاستهلاك بغرض الهيمنة، وانقلب تيار ما بعد الحداثة على أسطورة التنوير والعقل، وحل مكان العقل التشكيك في كل منجزات الحداثة، وعدم قبول مبدأ العقل.
وأعود إلى تحليل البيان المشترك، فكما جادل أدورنو وهوركايمر التنوير الأوروبي بحثاً عن أسباب عقلية لمعاداة السامية، نشر هابرماس ومجموعة أخرى هذا البيان الذي اختزل الصراع بين حماس والاحتلال الإسرائيلي بعد عملية السابع من أكتوبر، ولا شيء قبل هذا التاريخ، في ما كان الرد الإسرائيلي على ذلك الهجوم معتبراً ومقبولاً، بينما التصريحات والاحتجاجات الأخلاقية والسياسية لم تكن متوافقة مع الرد الإسرائيلي. ويضع البيان المبادئ التي لا ينبغي الطعن فيها باعتبارها تضامناً مفهوماً مع إسرائيل واليهود في ألمانيا. ويكون سياق مبدأ هذا التضامن هو حق إسرائيل في الرد على هجوم حماس التي أوجدت هذه الحرب.
تُرفرف روح المدرسة النقدية على هذا البيان، الذي نقرأ فيه العقدة النازية التي التصقت في التاريخ الألماني ومعسكرات الموت والتعذيب النازي وخطيئة النازية، التي تحاول ألمانيا والفلاسفة والمفكرون التكفير عنها برفض معاداة السامية وتصدير هذا الخطاب إلى العالم. وهابرماس صاغ هذا الخطاب كتضامنٍ مع روح أساتذته وتراث مدرسته، ولكن هذا البيان أوقعه في تناقضات سياسية وأخرى أخلاقية غير مفهومة من الناحية النظرية، التي ناضلت مدرسته من أجلها وغير مفهوم من الجانب السياسي ودعم الاحتلال.
رد الاحتلال الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى غير مفهوم إلا في سياق القتل وجرائم الحرب والإبادة، وهذا ما يرفضه هابرماس. بينما هجوم حماس وعملية طوفان الأقصى مفهومة ولها اعتبارات عديدة، وتاريخ الصراع يبرر هذا الهجوم المفهوم. الاحتلال الاستيطاني أخذ الأراضي الفلسطينية بالقوة، وهجّر المدنيين قسرياً، وقتل الأطفال وقام بأسر المواطنين، وانتهج سياسة الفصل العنصري، وساهم في بناء المستوطنات، وحاصر قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وبهذا يمكن فهم طوفان الأقصى؛ بينما لا يمكن فهم التضامن مع حرب إسرائيل على قطاع غزة إلا بسياق قتل المدنيين وقصف المباني وقتل الأطفال.
وتضامن هابرماس مع إسرائيل يعني مساندة قتل الأطفال والمدنيين، وهذا يعني التخلي عن المبادئ التنويرية والحرية والمساواة والعدالة والحقوق المكفولة بموجب العقد الاجتماعي، وهي من أساسيات التنوير والحداثة التي ناضل من أجلها رواد مدرسة فرانكفورت، بينما تخلى عنها هابرماس في هذا البيان غير المفهوم من الناحية السياسية والاجتماعية وحتى الأخلاقية والفلسفية. واستطاع البيان التحايل على منطق الصراع وقلب الوقائع التاريخية التي تمتد قبل عملية طوفان الأقصى لأكثر من 75 عاماً.
يمكن فهم تضامن هابرماس مع الاحتلال الإسرائيلي باعتبار أيديولوجي واحد لا يمكن إخراجه من سياق الشمال والجنوب. والمركزية الأوروبية والهيمنة الغربية والتأكيد على فكرة ومبدأ حقيقة الإنسان، ونوع الإنسان الذي يملك الحرية والعدالة والمساواة والحقوق المكفولة له في العقد الاجتماعي، والتي ناضل من أجلها في الثورة الفرنسية، ويتوافق مع ذلك شكل الإنسان الذي تحدث عنه فلاسفة القرن الثامن عشر وساهموا في بناء مشروعه التنويري وإرساء طبيعة الدولة التي تحفظ هذه المبادئ والقيم الإنسانية.
وبطبيعة الحال ذلك الإنسان الذي ناضل من أجله الفلاسفة وتحدثوا عنه ليس هو الإنسان الموجود في الجنوب، فهناك فرق كبير. باعتبار تاريخ الإمبريالية الغربية ومشروع التنوير وتناقضاته والنزعة الماركسية لرواد المدرسة النقدية والموقف من عقدة معاداة السامية، فإن تضامن هابرماس مع حق إسرائيل في مهاجمة حماس والتضامن مع اليهود مفهوم من حيث العقلية الغربية والمنطق الفلسفي الذي يتحرك منه هابرماس ويفكر من خلاله هو مفهوم في هذا السياق الداعم للقتل والإبادة والاحتلال والتهجير القسري.
ولكن الأمر غير المفهوم هو الجمع بين مساندة الاحتلال والتضامن مع إسرائيل وفي ذات الوقت تبني موقف إنساني ضد الأنظمة التوتاليتارية والتأكيد على الحرية والمساواة والعدالة ورفض جائزة الشيخ زايد كموقف أخلاقي وضروري من حيث تعارضه مع مبادئ وقيم مثلى يعتقدها هابرماس، وفي ذات الوقت التضامن مع الاحتلال الإسرائيلي وقتل الفلسطينيين والتأكيد على الفهم الكامل لهذا التضامن. ذلك هو الوحل الذي انتهى إليه العقل الأوروبي وتباينت منه ازدواجية المعايير من خلال المواقف غير النبيلة مطلقاً.
مبادئ التضامن لهابرماس في هذا البيان أعادت الروح الألمانية لهذا البيان، وتحدث هابرماس بمنطق الدولة القوية كما يتصورها هيغل، والانطلاق من هجوم حماس على إسرائيل يتوافق مع فلسفة هيغل وإيجاد منطق تاريخي للحروب، وتدافعت الأصوات في هذا البيان وفقد هابرماس هويته الثقافية والأخلاقية وغلب صوت اليمين المتطرف على صوت اليسار ونجح في تبني الصهيونية ومجاملة اليهود تحت شعار معاداة السامية، وبهذا استطاع هابرماس أن يشن حربه على هابرماس في هذا النقاش الجدلي الطويل.
مبادئ التضامن في هذا البيان تتوافق مع روح المدرسة النقدية، وهابرماس أعاد صوت هوركايمر وأدورنو ومساهمتهما الجدلية في فهم معاداة السامية واستيعاب العقلانية الأداتية ومصير التنوير ضمن كتابهما "جدل التنوير". وفي هذا البيان أكد هابرماس على مبدأ التضامن ودافع بشراسة عن نوايا إسرائيل في إبادة الفلسطينيين، وبهذا قد وجد مبرراً أخلاقياً لهذه الحرب المتوحشة..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.