كثيراً ما يتساءل أهل غزة وغيرهم عن دور المنظمات الدولية في رفع الظلم عنهم، وأحياناً كثيرة ما يستنكرون أصلاً دورها حتى اعتبروها متواطئة.
من خبرة تقارب العشر سنوات في العمل في هذه المنظمات، أوضح النقاط التالية:
- المنظمات الدولية ليست فوق-دولية supranational: هي إما دون الدولة (مثل المنظمات غير الحكومية) أو هي ذاتها تمثل الدولة القومية (مثل الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وغيرها من المنظمات الإقليمية). وعليه، فليست لها سلطة تمكنها من تعدي دور الدولة. وتوجد منظمات دولية غير ممثلة لدولة بعينها، قد تكون أكثر استقلالية ولكنها كذلك ليست فوق-دولية، وبالتالي لا تستطيع تخطي سيادة وسلطة الدولة التي تعمل بها (مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر).
- هذه المنظمات قوامها أساساً هم موظفون مدنيون محليون بالأساس – أي من أهل البلد الذي يعملون فيه: وهؤلاء يصيبهم ما يصيب بقية مواطني بلدهم. فلو كان الشعب تحت القصف، كذلك أفراد هذه المنظمة. بالتالي، منطقي أنه لو لم يكن المجال الأمني يسمح بعملهم، فقد يفقدون كثيراً من تأثيرهم.
على سبيل المثال، في حرب روسيا على أوكرانيا، أرادت المنظمات الدولية تحييد المدنيين من الصراع، واستدعى ذلك إخراجهم من مناطق القتال في ماريوبول. حتى تقوم المنظمات بمهامها في حماية هؤلاء المدنيين تعين عليها أن تضمن سلامة موظفيها أثناء عملية إجلاء المدنيين.
- في أحسن الظروف، هذه المنظمات لها تأثير "المُسكِّن": في أحسن الظروف المالية والأمنية لم تستطع (أو بالأحرى لم تُمكّن) هذه المنظمات من تغطية الاحتياجات الإنسانية في كثير من الدول التي عملت بها، ولكنها قد تبطئ من اتساع رقعة الأزمات وتعمقها. على سبيل التوضيح والمثال، يظهر هذا التقرير قلة الدعم المخصص لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر – التي تحتاج لقرابة الـ 154 مليون دولار في 2023 لتغطية احتياجات مئات الآلاف من اللاجئين في مصر ولم تحصل سوى على 5 ملايين دولار فقط حتى وقت إصدار التقرير.
- هذه المنظمات جلها لا تملك قوات قتالية خاصة بها: هي فقط تستقوي بما منحه لها القانون (الدولي أو المحلي) من تفويض. وهنا، من غير المعقول أن يُطلب من منظمة توفير خدمة هي ليست في نطاق تفويضها؛ لأنها لا تملك الخبرة فضلاً عن التخويل بتقديمها. لذلك، كل قوتها، كلها، هي في أن تنادي، وبأعلى صوتها، أن طبقوا القانون (كل منظمة تنادي بالشق القانوني المعني بدورها)، وتستخدم في ذلك كل السبل -سرية وعلانية- لتقدم به خدمتها وتنفذ تفويضها.
عمل المنظمات الدولية خاصة في الدور السياسي منها والمتعلق بالتعديات الإنسانية واتفاقيات جنيف وغيرها يبدو أن له صدى يقلق حتى أقوى دول العالم. في هذا التسريب لويكيليكس يبدو الموقف الأمريكي الرافض بشدة لوصول تقرير جولدستون للمحكمة الجنائية الدولية وبدلاً منه تطالب بأن يستمر التحقيق محلياً (من قِبل سلطات إسرائيلية وفلسطينية) في حرب 2008-2009.
- الجهة الدولية الوحيدة التي تستطيع الدفع بالسلاح لحفظ الأمن والسلم هي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: وهذا أيضاً تتحكم فيه الدول وليس الشعوب؛ بل تتحكم فيه فقط 5 دول. فقط 5 دول تستطيع أن تعطي الضوء الأخضر أو الأحمر للتحرك تجاه أي عنف في أي مكان حول العالم، بصرف النظر عن مصالح بقية الـ193 دولة الأخرى. لذا، في هذا المجلس نقطتان سلبيتان تمنعان التعويل عليه لصالح قضايا كل دول العالم عامة، والعالم العربي والإسلامي خاصة:
– حق الفيتو، الذي يمنح سلطة رفض أي قرار سلم أو حرب داخل المجلس فقط للدول الخمس (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين).
– العالم العربي والإسلامي ليس له ممثل قوي (مدفوع من شعبه) على أحد مقاعد هذا المجلس، فضلاً عن أن يكون من بين الخمسة الذين لهم حق الفيتو.
- رغم ضعف قدرة المنظمات على التحرك ميدانياً، تمكن العديد من المديرين الموظفين لدى هذه المنظمات من تقديم تصريحات أعدل بكثير مما أدلى به كثير من ممثلي دول عربية وإسلامية. وما دام أنه لا يوجد موقف سياسي وعسكري موجّه ضد الاحتلال، فإن بيانات المنظمات الإنسانية لا تتعدى كونها أداة ضمن أدوات أخرى (المقاطعة، التظاهرات، التبيان من خلال الإعلام الحر..) في سبيل الضغط على الجُناة.
- إذن، من غير المنطقي أن تنادي الشعوب أياً من هذه المنظمات أن تقوم بدور هو إما خارج اختصاصها، أو حتى في نطاق اختصاصها ولكن يعيق تنفيذها له الدول المؤثرة فيه أو تُنتهك سلامتها أثناء قيامها بوظائفها. وفي ذات الوقت، لا يجب نبذها – فخطاباتها وكوادرها قد يكونون ضمن أدوات الضغط.
على الرغم مما أشرنا له في النقاط السبع السابقة، تجدر الإشارة إلى أن ثمة بعض التساؤلات المقلقة لعمل هذه المنظمات، وقدرتها على الارتفاع لمستوى الحدث وتحقيق التساوي في تدخلاتها. المثال الذي أود الإشارة إليه هنا هو هذا الخبر (وعجيب أن أراه غائباً عن وسائل الإعلام وهو منشور على صفحة اللجنة منذ يومين): مديرة اللجنة الدولية للصليب الأحمر تستضيف في مقر اللجنة بجنيف وزيري الخارجية والصحة الإسرائيليين (وهذا جيد إن كان لأغراض تخص الحد من آثار الحرب على المدنيين) وعدداً من أهالي المحتجزين في غزة.
اللجنة لها مبادئ أساسية تعمل بها: الإنسانية والحيادية وعدم الانحياز والسرية. بعكس "هيومان رايتس ووتش" مثلاً التي تفضح كل انتهاك حقوقي إعلامياً، فإن أولوية اللجنة هي التفاوض سراً مع الأطراف المنتهكة لمبادئ القانون الدولي الإنساني حتى تعدل عن هذه الانتهاكات (مثال: تسريب ويكيليكس عن تقرير اللجنة الموجه للأمريكان بُعيد زيارتها لسجن أبو غريب قبل أن يُعلن عن الانتهاكات فيه مؤخراً إعلامياً).
بناءً على هذه المبادئ، يضع هذا الخبر اللجنة أمام المساءلة فيما يخص حياديتها في قيامها بالمثل على الجانب الآخر من الحرب: من ناحية لقاء بأعلى المستويات في حكومة حماس أو استضافة أهالي المحتجزين الفلسطينيين في سجون إسرائيل.
للفلسطيين أسرى قابعون منذ سنين طويلة، لم تقم اللجنة بخطوة مماثلة لهم. لا هي دعت بعض الأهالي لمقر اللجنة بسويسرا (أو لم تُنشر ذلك إعلامياً على الأقل كما في الحالة المنشورة بالخبر أعلاه)، فضلاً عن أن هناك محتجزين في السجون الإسرائيلية منذ سنين طويلة. أو لعل اللجنة تسعى لذلك -أن تعدل في اجتماعاتها والتعريف الإعلامي بها بين الطرفين- في خطوة في المستقبل القريب؟! أو تُعيد التنبيه بموقف اتخذته مدير(ت)ها قديماً؟ وإن كانت قد عدلت به قديماً القيام فتكراره الآن في سياق الزخم والاستقطاب الحاصل في الصراع الدائر منذ السابع من أكتوبر 2023 قد يكون واجباً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.