يقول الفيلسوف وعالِم الاجتماع الفرنسي ريمون أرون: كثير من مثقفي اليسار قاموا بنفس تجربتي: "ينسون لفترة الإمبريالية والواقع الاستعماري ويتذكّرون أصولهم ويجدون أنفسهم لدهشتهم يهوداً". وهو الأمر الذي انكشف بشكل لا لبس فيه بالبيان الصادر عن أهم فلاسفة اليوم يورغن هابرماس، فيلسوف النظرية النقدية وأحد أهم فلاسفة النظرية التواصلية وإيتيقا الحوار، وأحد أكثر الفلاسفة تأثيراً حالياً على النقاش الفلسفي حول الفضاء العام وما بعد العلمانية، وأحد رموز ما بعد الحداثة.
يكشف هابرماس اليوم أن الحديث عن القيم الكونية وعن النزعة الإنسانية والعيش المشترك ليس إلا شعارات جوفاء حين يتعلق الأمر بحماية إسرائيل أمام ما اعتبره هابرماس في بيانه وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس، وأن كل ما يحدث الآن في غزة تتحمله المقاومة وحدها وأن الاحتلال الإسرائيلي لا يتحمل وزر الإبادة الجماعية في غزة مع إبداء بعض القلق على مصير السكان الفلسطينيين.
بل ذهب لأبعد من ذلك، إذ يعتبر الروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وحق الاحتلال الإسرائيلي في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة، وأن الالتزام بها أمر أساسي في حياتنا السياسية المشتركة، بحيث لا تستقيم الحياة السياسية دونه، وهذا النهج مواصلة لما قالته المستشارة السابقة ميركل، أن أمن إسرائيل "مصلحية وطنية"؛ إذ اعتبرت أن سبب وجود ألمانيا هو إسرائيل وليس العكس.
إنه ولاء أعمى للصهيونية لا يليق بمن في مثل مكانة هابرماس. إننا لا نجد في البيان الموقع مع نخبة ألمانية ذات مكانة كونية أية إشارة إلى الإبادة الجماعية في غزة، ولكن نجد فيه كل التبريرات الممكنة لهذه الإبادة، وكل التشريع الممكن باسم الدفاع عن النفس لقتل الأطفال، وهو ما يتعارض بشكل جوهري وأساسي مع التفكير الفلسفي.
إن عقد الذنب من المرحلة النازية هي التي تحرك العقل السياسي الألماني تجاه الحركة الصهيونية التي دعت لإنشاء دولة لليهود على أرض مغتصبة، واليوم من جديد تتحالف وتتواطأ مع احتلال فاشي يرتكب المجازر في غزة لدفع الفلسطينيين فيها للهجرة خارجها، وكلما تمسك أهل الأرض بأرضهم نكلت بهم الآلة الحربية الإسرائيلية، بينما يدافع عن إجرامها في حق المدنيين في غزة السياسيون والفلاسفة والمفكرون والمثقفون في الغرب، ضاربين عرض الحائط بكل القيم الإنسانية التي دافعوا عنها في خطاباتهم، لنكتشف في النهاية أن ذلك الخطاب موجه فقط للإنسان الغربي وأنه لا ينظر للبقية، وخاصة سكان الشرق الأوسط على أنهم جزء من ذلك الإنسان، فكما دافعوا عن الإبادة في فلوجة العراق يدافعون اليوم عن الإبادة في فلسطين، زاعمين أن هدف إسرائيل هو تحقيق السلام في المستقبل، إذ هي حرب كما يقول هابرماس في بيانه مصحوبة باحتمال (ليس مؤكداً) بإحلال السلام في المستقبل. فمتى كان السلام يتحقق تحت نيران مدافع الإبادة الجماعية؟!
إن الحرب المطلقة التي يمارسها الاحتلال لا يمكن أن تحقق السلام باعتبار أنها حرب ضروس غايتها سحق الآخر سحقاً تامّاً كي يبطل مقاومته نهائياً. في حين أن الحرب الواقعية غايتها دفع الآخر للقبول بالسلام ودفع الأذى. والبيان يشرع للأولى ويتناقض مع الثانية، وبذلك يصبح خطاباً فلسفيّاً مضاداً للفلسفة ذاتها، باعتبار أنها خطاب للسلام لا للحرب، مطلقة كانت أم واقعية. إذ إن غاية الفلسفة تحرير الإنسان من حالة الطبيعة حيث تسود حرب الكل ضد الكل إلى الحالة المدنية حيث يسود السلام الذي لا يتحقق إلا بنبذ الكراهية. فالحرب المطلقة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي تقوم على الكراهية المطلقة للعدو في حين الحرب الواقعية التي غايتها السلام تنتهى الكراهية بنهايتها، وكما يحل السلام محل الحرب تحل المحبة محل الكراهية. إن ما يمارسه الاحتلال من إبادة جماعية لا يمكن بحال من الأحوال أن يحقق السلام المنشود، بل يجعل الخروج من الحالة الطبيعية أمراً مستحيلاً.
إن ما حدث يوم 7 أكتوبر من هجوم على البؤر الاستيطانية للاحتلال في أرض فلسطين المحتلة يعتبر حدثاً فارقاً سيكون له تداعيات كبرى على المنطقة ككل وسيغير وجه التحالفات المستقبلية في العالم. إذ كشف هذا الحدث الذي مثل رجة هائلة من الناحية العسكرية والسياسية حقيقة مواقف القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة ودول الاستعمار القديم المساندة بصورة مطلقة للاحتلال الإسرائيلي الذي يحتل فلسطين منذ ما يقرب المئة عام، وخلفية هذا الدعم التي تستند لبعض الأسس الدينية مهما حاول البعض إنكار ذلك، إذ يمكن فهم المساندة الغربية المطلقة من زلة لسان بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر حين تحدث عن حرب صليبية، والدعم الغربي هو جزء من تلك الحرب وهو الدافع لكل مواقف الدول الغربية. واليوم نرى كيف تتحالف الحركة الصهيونية مع اليمين المتطرف الذي يهيمن على أغلب الحكومات الغربية ويسيطر على الإعلام الغربي الذي يتبنى الرؤية الإسرائيلية لما يحدث في فلسطين.
ما حدث في فلسطين غير وجه العالم وكشف مواقع الكل الحقيقية، وأكد أن الحرية لا تهدى، بل تنزع بالقوة، وأن الخيار الوحيد لتحرير فلسطين إنما هو المقاومة المسلحة داخلها والمقاومة السلمية خارجها لتحرير الشعوب العربية من الاستعمار الداخلي المنسحق للاحتلال.
فالمقاومة الشعبية السلمية هي سبيل الشعوب الوحيد للتحرر من ذلك الاستعمار، فليس من مصلحة الشعوب خوض مقاومة مسلحة لا يستفيد منها إلا أصحاب المصالح، ولعل ما حدث في سوريا واليمن وليبيا دليل على ذلك. حيث لم يستفد من حركة التحرر من الاستبداد إلا الموالون للاستبداد و الاستعمار الجديد. كما أنه ليس من مصلحة الشعوب تدمير البنى التحتية للدولة التي هي في الواقع ملك الشعب وليست ملكاً للحاكم مهما كان ذلك الحاكم. والمقاومة السلمية كما أثبت ربيع 2011 قادرة على تحقيق المطلوب، ولكن فقط على الشعوب ألا تسلم ثورتها إلا لمن يستحق، حتى لا تتسلل لها قوى الثورة المضادة وتساهم في تدميرها من الداخل كما حدث للثورة المصرية ومن بعدها الثورة التونسية. إنه درس وجب استحضاره في موجة الثورات القادمة التي اقتربت رياحها.
إن تحرير فلسطين يمر حتماً بتحرير الشعوب العربية والإسلامية من وكلاء الاستعمار الجديد ومن النخب الفكرية التابعة لهم، والتي تحاول بكل الطرق توجيه الرأي العام نحو دفن القضية الفلسطينية، وإغوائه بمكاسب اقتصادية وهمية من التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي الذي ينتهك حرمة فلسطين، في حين أن الواقع يكشف أن تلك الدول لن تتحول إلا لسوق شاسعة للسلع لإسرائيل، حيث تبقى هي المستفيد الوحيد، في حين أن المطبعين غايتهم الوحيدة امتلاك المزيد من أدوات المراقبة والتنكيل بشعوبهم والحصول على الرضا الأمريكي التام، حتى وإن كانت ممارستهم تتعارض كليّاً مع كل القيم التي يدافع عنها الغرب.
فعندما تتعارض مصلحة شعوب المنطقة مع مصالح واشنطن، يصبح أكبر المساندين لأكثر الأنظمة قمعاً في العالم، ولعل التاريخ القريب يشهد على ذلك في إفريقيا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط وكم من حكومة ديمقراطية ومشروع لبناء دولة ديمقراطية أجهض بمباركة تامة من الولايات المتحدة والقوى الغربية، التي تدعي زوراً الدفاع عن قيم الحرية والكرامة وحق الشعوب في تقرير مصيرها والدفاع عن الكذبة الكبرى في حق الشعوب في حكم ديمقراطي رشيد وعادل يحقق الكرامة للشعوب والمساواة أمام القانون يتحول بموجبه الناس من رعايا إلى مواطنين.
فمنذ إسقاط حكومة مصدق في إيران إلى اليوم والقوى الغربية أكبر داعم للأنظمة القمعية وللاستبداد، لأن ذلك يخدم مصالحها في نهب ثروات الشعوب عبر وكلائها المحليين. ولعل نموذج فرنسا في النيجر أكبر دليل على ذلك حيث كانت تنهب ثروتها الطبيعية مع دعم كامل لحكم قمعي أفقر الشعب وملأ خزائن باريس.
لقد بدأت إفريقيا بالتحرر من الاستعمار الجديد والتحرر من الهيمنة الغربية، والدور القادم على الدول العربية والإسلامية التي حان وقتها تحررها. وما حدث في فلسطين هو إيذان ببداية تحرر تلك الشعوب. فالجيل الجديد الذي بارك المقاومة وساندها لا تحكمه أيديولوجيات الأنظمة والنخب المهيمنة، بل لا يؤمن أصلاً بتلك النخب ويكفر بها وبكل مشارعيها الوهمية عن مستقبل أفضل، بل يؤمن أنها عائق حان وقت أفوله وغروبه لتشرق شمس جديدة تمهد الطريق للتحرر. فما كان لصلاح الدين أن يحرر القدس لو لم يحرر محيط فلسطين من كل الحكام المطبعين مع الصليبيين.
قبل سبع سنوات من اليوم كتب آري شبيط، مقالاً في صحيفة هارتس الإسرائيلية، يشير فيه إلى أن إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة، رغم كل آلة الدعاية والغطرسة العسكرية، ونضيف أن أفول إسرائيل سيصحبه أفول نخب الاستشراق وأنظمة موالية للاستعمار، فقد حان الزمن الذي يلفظ فيه هؤلاء أنفاسهم الأخيرة فلا مستقبل لهم كما أنه لا حاضر لهم، ذلك أن التطبيع لا يأتي من رؤية الشعوب، والنخب المطبعة تستعمل كل أدوات القمع والغطرسة لمنع شعوبها من التعبير عن موقفها الرافض للتطبيع، ولكن إلى متى؟
إن درس فلسطين كشف أنه لا يوجد عدو لا يقهر. فلقد كشف هجوم المقاومة مدى هشاشة الاحتلال رغم كل الغطرسة الذي يتعامل بها مع الفلسطينيين والشعوب في المنطقة كل يوم. ولعل الدعم الهائل من القوى الغربية للاحتلال سببه الرئيسي أن ما حدث أرسل إنذار لها بخطر وجودي للاحتلال ومصالحها في المنطقة. فإذا تسبب ألف مقاتل فقط في كل هذا، فماذا لو كانت تلك القوة بعشرات الآلاف، لأنهت الاستعمار من جذوره في يوم واحد.
إن ما نراه اليوم من دعم غربي ربما يؤجل المحتوم، ولكنه سيقع في النهاية. فمهما حاولت الدول الغربية حماية الاحتلال ففي النهاية سيلفظ أنفاسه الأخيرة وجميع الأنظمة المستبدة في المنطقة، إذ لا مستقبل إلا لقوى الحرية والكرامة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.