بينما يتربى الآن جيل من أبنائنا على مقاطعة كل ما هو داعم للكيان الصهيوني، يدرك الجيل الأكبر منا أن هذه ليست المقاطعة الأولى لنا. لقد قاطعنا من قبل داعمي الصهاينة زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وبعد ذلك مررنا بالمقاطعة مرة أخرى بعد غزو العراق عام 2003 في مقاطعة للشركات والمشاريع الأمريكية. ومنذ ذلك الحين لم نعدم سبباً للمقاطعة، فكانت هناك مقاطعة المنتجات الفرنسية وقبلها الدنماركية نصرة لنبي الله -عليه أفضل الصلاة والسلام- وجاءت بعدها مقاطعة المنتجات السويدية رفضاً للاعتداء على مقدسات المسلمين.
لكن عودة المقاطعة مرة أخرى تثير تساؤلاً هاماً للغاية هو: لماذا تتوقف هذه المقاطعات أو حتى لماذا تفتر؟ لا شك أن السبب ليس لأن هذه المقاطعات لا تجدي نفعاً، وليس لأنها حققت أهدافها التي بدأت من أجلها. فما السبب؟ المقاطعة هي فعل اقتصادي وكأي فعل اقتصادي هناك ثلاثة أسس يقوم عليها استمرار هذا الفعل وهي الحافز والظروف الملائمة والكلفة البديلة.
من حيث الحافز؛ فأيًّا كان الدافع للمقاطعة سواءً ألم الضمير أو دعماً لقضية عادلة أو محاربةً للأعداء اقتصادياً أو للتحرر الاقتصادي، فإن فعل المقاطعة سوف يزداد كلما قوي هذا الدافع، وسيضعف كلما ضعف. وفي حين أن أسباب المقاطعة لا تزال قائمة، يتراجع مع الزمن عادةً زخم وقوة المقاطعة، وهذا ما يراهن عليه من نقاطعهم الآن في ظل الحرب الحالية على غزة، هذا بالإضافة إلى مراهنتهم على الألاعيب الاقتصادية التي تمكنهم من إخفاء المستفيدين الحقيقيين من أموالنا. ولمنع خفوت هذه المقاطعة الواجبة علينا، يجتهد البعض في إطلاق مسميات جديدة على المقاطعة حتى لا تكون ثورة غضبٍ عابرة، فهناك من أسماها الاستغناء وآخر أسماها الاستبدال، وحتى سميت التسوق أو الشراء الواعي.
لكن الاستمرار في المقاطعة يتطلب حافزاً يستمر في الاشتعال كما يفعل الوقود من أجل توليد الطاقة. ومما يحقق ذلك، الاستمرار في تذكير أنفسنا بأهمية الانعتاق من الاسر الاقتصادي للقوى الداعمة للكيان الصهيوني، لكي نجد لأنفسنا مكانة في الاعتبارات البشرية والحقوق الإنسانية العالمية، التي تأكدنا جميعاً أنها كانت تتلى علينا بكرة وعشياً دون أن تسري علينا حين يجد الجد. وكذلك يتحقق الاستمرار بتحول المقاطعة إلى عمل منظم وممنهج ومدروس وهذا ما أثبته تزايد قوة وأصداء دعوات حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) على مستوى العالم عبر السنوات الماضية، وهذا مما يوجد الظروف الملائمة للمقاطعة ولاستمرارها.
إن تهيئة الظروف الملائمة للمقاطعة هي واحدة من أهم الأمور التي تسقط عند الحشد والدعوة إلى المقاطعة. فنحن نحاول عبثاً الاستمرار بذات نمط الحياة الرأسمالية المستوردة من الغرب مع العمل على مقاطعة أهم العلامات والكيانات التجارية التي هي عصب هذه الحياة الرأسمالية. ماذا لو أعدنا تقييم نمط الحياة الذي نعيشه؟ ليس لكي نعود عقوداً للوراء، ولكن لنجعل النمط الاقتصادي لحياتنا طارداً لكل تلك العلامات التجارية التي تفوح منها رائحة دم الأبرياء. ماذا لو استبدلنا وجودها بمجموعات شبابية أو نسائية أو أسرية من أحيائنا وعائلاتنا؟ بحيث يستفيدون من المعرفة المتاحة في فضاء الإنترنت، لتقديم حلول اقتصادية بديلة للمنتجات والخدمات التي لا نريد لها مكاناً في حياتنا مرة أخرى، ماذا لو؟
إن من أول ما نتعلمه في الاقتصاد هو تكلفة الفرصة البديلة، وهي تعني الخيارات الأخرى التي كانت ممكنة والتي يتم التضحية بها من أجل الخيار الاقتصادي الذي نتخذه. والمقاطعة كفعل اقتصادي تتضمن هذه التكلفة البديلة، فاستغناؤك عن خيارات اقتصادية من منتجات وخدمات اعتدتها سابقاً ينطوي على التضحية بأمور أخرى منها طرق شراءٍ سهلة ومعتادة، ومنها الوقت الطويل الذي نقضيه في التحقق من المنتجات والشركات وحتى دول المنشأ. ولهذا أؤكد مرة أخرى على أن المقاطعة تحتاج منا إلى تهيئة الظروف الملائمة لتصير خياراً سهلاً وأقل تكلفة زمنية أو مالية، وحتى تزداد جماهيرُ المقاطعين أفواجاً. ولكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن هذه التكلفة تقلل من أهمية ووجوب هذه المقاطعة.
عليّ أن أعترف أن المقاطعة الحالية مختلفة عن سابقاتها، فهي أشد وأقوى حشداً واتساعاً. فلم يمر عليّ أن رأيت تفاعلاً بهذا الشكل الكبير مع دعوات المقاطعة، ولا حتى الجهد الذي تبذله الشركات العالمية وأفرعها المحلية في محاولة إبعاد نفسها عن مرمى المقاطعة، وهو جهدٌ واضحٌ وكبير. في حين كانت في السابق أكثر تجاهلاً وتقليلاً من أهمية الحدث. واليوم أبناؤنا على استعدادٍ كبيرٍ لترك بضاعة طالما أحبوها تفسد. ذكرت لي ابنة أخي بفرح أنهم عندما خرجوا لأحد المجمعات التجارية الكبيرة والمزدحمة عادة وفي أحد أيام العطل وفي وقت الذروة المسائية لم يكن هناك أي أحد يصطف أمام المطاعم العالمية المدعو لمقاطعتها، بينما احتشد الناس أمام المطاعم الأخرى. لا أتذكر أبداً أن الأمور وصلت لهذا الحد في أي مقاطعة سابقة، على الأقل حيث أعيش، ولا أذكر قبلاً أن كل من أعرف من حولي يجتهدون في المقاطعة بهذه الطريقة من قبل، وهذا أمرٌ فرضه مستوى الفظاعة والإجرام منقطع النظير الذي وصل إليه الكيان الصهيوني وحلفاؤه.
ينبغي أن ندرك جيداً ونحن نواجه الأعداء اقتصادياً، أن المقاطعة ليست عملاً صعباً مهما بدا الأمر عكس ذلك، وإن ساوركم الشك في ذلك، عودوا إلى أولئك الذين استمروا بالمقاطعة منذ نحو 20 عاماً.
وعلى الرغم من كل شيء، ومن أن هذه المقاطعة واجبة أخلاقياً وإنسانياً قبل أن تكون واجباً دينياً، إلا أنها لا تزال جهداً غير كافٍ وليست بالمستوى المطلوب للتصدي للعدوان الفاجر على الأطفال والنساء والكبار والمرضى والأطباء والمسعفين والصحفيين وكل أهل غزة الذي هم أصحاب الحق.
إذن ما هو الفعل الاقتصادي المطلوب كرد فعل على مستوى هذا العدوان السافر؟ هذا السؤال المهم والمُلح يجعلني أسأل نفسي قبل أن أوجه إليكم هذا السؤال:
كيف ستكون المقاطعة القادمة؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.