إن المشهد في مستشفيات غزة، وإن وصفناه بالكلمات، لا يمكن للقلب أن يتحمل قسوته، فالمستشفيات تُباد تماماً، والأطباء ليس بيدهم حيلة أمام من يُصارع الموت، كما يخيم الدمار الكامل والرعب على كل زاوية في المستشفيات.
قد تعرض أكبر مستشفى في قطاع غزة، وهو مستشفى الشفاء، للموت والإبادة، في حين يتحدث الاحتلال عن ادعاءات كاذبة غير موجودة لتبرير دخول واقتحام المستشفى، بحجة وجود قواعد لحركة حماس تحت المستشفى.
قام الجيش الإسرائيلي بإبلاغ الأطباء في مجمع الشفاء بإخلاء المستشفى قسراً تحت تهديد السلاح مع ٤٥٠ مريضاً وآلاف النازحين من الأطفال والأمهات والعجائز، كما طُلب منهم رفع أيديهم حين خروجهم من المستشفى، مما سبب حالة هلع بين النازحين والمرضى والأطباء أثناء الإخلاء القسري، وقد بقي 5 أطباء بينهم مدير الشفاء وبعض الممرضات مع 150 مريضاً، بما في ذلك الأطفال الخدج داخل المستشفى.
كما قام هذا الجيش بقصف المستشفى أكثر من سبع مرات وتدمير الجدران، وكأن إسرائيل تستهدف هدم القطاع الصحي، وخاصة مجمع الشفاء، بجعله مشلولاً عن تقديم العلاج. وحسب وصف أحد الأطباء، فإن الوضع خطير جداً، وهؤلاء المرضى والجرحى بحالة صحية خطيرة، وجزء كبير منهم لا يستطيعون المشي على أقدامهم، وأجبرهم الاحتلال على الخروج مشياً، حيث إن بعض المرضى قد وقعوا على الأرض على بعد مسافة ١٠٠ متر، وهذه تعتبر حالة إعدام حقيقي للمرضى الذين أُجبروا على الخروج من المستشفى، وإجبارهم على المشي ١٥ كم باتجاه الجنوب، وهي مسافة طويلة جداً، حتى إن الأشخاص الأصحاء لا يستطيعون المشي كل هذه المسافة بسهولة، وقد تم التأكيد بعدم وجود أي ممرات آمنة، وأن كل ما ينشره جيش الاحتلال من صور عن الأمان هي مجرد ادعاءات كاذبة. هذه الممرات هي ممرات قتل، وهذه جريمة تضاف إلى سجل الاحتلال الإسرائيلي.
في كل يوم يسعى جيش الاحتلال بكل الوسائل لانتهاك الإنسانية بكل قيمها في غزة، حيث تم منع سيارات الإسعافات من التوجه من جنوب وادي غزة إلى شمال غزة، وكأنه يستهدف قتل هؤلاء الجرحى والمرضى، الذين من المفروض أن يتم نقلهم بالإسعاف وليس إجبارهم على المشي على الأقدام. وقد تم استدعاء المنظمات الإنسانية لحماية المرضى والجرحى والأطفال الخدج، لكن للأسف لا توجد استجابة للوضع الإنساني الكارثي من قبل هذه المنظمات التي تركتهم يلاقون مصيرهم مع جيش الاحتلال، وهذا يدل على تقصير واضح من قبل هذه المنظمات الإنسانية الدولية بحق المرضى والجرحى.
مشهد الموت في غزة، وبشكل خاص في محيط مجمع الشفاء، لم نستطع تخيله، حيث الجثث المتناثرة في الشارع، كما مُنع دفن جثامين بعض المرضى، وتم دفن فقط ٨٢ جثة، لكن باقي الجثث سرقها الاحتلال لأسباب مجهولة!
لقد أصبح مشهداً يومياً أن تكون جميع المستشفيات المليئة بالمرضى والأطفال الجرحى هدفاً للقصف والاقتحام، جميع المستشفيات في شمال غزة قد توقفت عن العمل حسب شهادة الأطباء، فلم يتبق لديهم وقود أو إمدادات تُمكنهم من تقديم الخدمة الإنسانية، وبسبب ذلك يموت آلاف المرضى ببطء. مشهد الموت في غزة في هذه الأيام الذي لم يحاول أحد إيقافه هو دليل على موت الإنسانية وقيمها، وخاصة بوجود من يبرر هذا القتل والهمجية والوحشية بحق الأبرياء والمدنيين.
ولم تقتصر المشاهد المروعة بحق المدنيين والمرضى فقط على مستشفى الشفاء، بل امتدت إلى جميع المستشفيات ومنها المستشفى الإندونيسي، وهو آخر المستشفيات التي بقيت في الخدمة في شمال غزة، فقد تمت محاصرته أيضاً، وحسب شهادة أحد الأطباء، فإن المستشفى يتحول تدريجياً لمقبرة جماعية ونقطة لتفشي الأمراض والأوبئة الخطيرة، كما أطلق الدكتورعلى مستشفى كمال عدوان، في صرخة غضب على إحدى القنوات الاعلامية، مستشفى الموت. وكأن هذه الحرب التي تشنها إسرائيل هي حرب ضد المستشفيات والمدارس التي تضم النازحين الذين لم يعد لهم مأوى.
"لا يمكننا أبداً أن نسمح للجرائم التي ترتكبها إسرائيل بأن تصبح أمراً طبيعياً جديداً، قصف المدارس والمستشفيات والمباني السكنية ليس أمراً طبيعياً"، ولكن السؤال هل أصبح أمراً طبيعياً حين يتعلق الأمر بقصف المدارس والمستشفيات على رؤوس الفلسطينيين المدنيين؟!
وقد عبر العديد من الأطباء عن المآسي التي شاهدوها في المستشفيات، بالإضافة إلى خيبة أمل الكادر الطبي بسبب خذلان جميع الجهات الدولية الإنسانية، "لا نوجه نداءً لأحد، الجميع قد خذلنا"، هذا ما قاله أحد الأطباء من مستشفى الشفاء على قناة الجزيرة.
إن حالة المستشفيات في شمال قطاع غزة تعتبر كارثة إنسانية، خاصة مع الهجوم الإسرائيلي الذي لا يضع أي اعتبار للقوانين والأعراف الدولية، في المقابل ما فعله ويفعله أطباء غزة والأطقم الطبية يعتبر بطولة إنسانية في وجه المعتدي، حيث أصروا على بقائهم مع مرضاهم حتى اللحظات الأخيرة، وضحوا بحياتهم لتقديم رسالتهم الإنسانية، حيث قتل الاحتلال في غزة ١٩٨ طبيباً وممرضاً مسعفاً، واستهدف ٥٥ سيارة إسعاف وأخرج ٢٥ مستشفى من الخدمة حتى الآن.
وهنا نستنتج مما يصلنا من صور وتقارير إعلامية من غزة أن الاحتلال الإسرائيلي يشن حملة على رضّع وأطفال ومرضى، والحكومات الغربية وإعلامهم يصفّقون ويدعمون ويسلّحون، لكنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا ادعاءاتهم الكاذبة، ولم يستطيعوا أن يجدوا رهائنهم، ولا أن ينهوا العالم عن الهتاف لفلسطين، ولاكسر إرادة الفلسطينيين.. كل ما جنوه هو فشل وإجرام وكذب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.