حلَّت بنا جائحة كورونا من حيث لا ندري ولا نحسب، ثم الصراع الروسي الأوكراني، ثم جاء عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة الذي صار الآن أحد أكثر الأحداث دموية في تاريخ الشرق الأوسط الحديث.. وبالنظر إلى توالي هذه الزلازل على السياسة والاقتصاد العالميين، فإن الوقوع تحت وطأة ركود عالمي مدمر وواسع النطاق يبدو أمراً قريباً. والواقع أن عدوان الاحتلال على غزة ليس من شأنه أن يؤدي فقط إلى تدمير طرق التجارة، والتأثير في أسعار الطاقة، وإثارة الاضطراب الجيوسياسي، بل إنه يثير كذلك مخاوف من اندلاع المواجهة بين القوى العظمى في العالم.
يستحوذ القلق على ملايين الناس الذين يخشون تداعيات الحرب المتصاعدة في الشرق الأوسط وما قد ينجم عنها من اضطرابات جيوسياسية والاجتماعية. فهذه التوترات العالمية لها تأثير كبير في كيفية إدراك الناس للنمو الاقتصادي، وفي القرارات التي يتخذونها بشأن استثمار أموالهم. وفي الوقت نفسه، تتسبب الحواجز التجارية والعقوبات الاقتصادية في حدوث اضطرابات تضر بالشركات التي تعتمد على التجارة الدولية. وبالنظر إلى عدم اليقين بشأن ما سيحدث في المستقبل، فقد نشهد انخفاضاً كبيراً في الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار التجاري، فالمستهلك والمستثمر يُحجمان في العادة عن المشاركة في النشاط الاقتصادي خلال هذه الأوقات المضطربة. كذلك فإن الحكومات تتحسب لهذه التوترات وتراجع سياساتها على أساس التعامل معها.
الوضع الإقليمي
إذا تدبرنا في وضع المنطقة، فسنواجه أسئلة كثيرة جديرة بأن تُطرح، والجمع بين هذه الأسئلة وإجاباتها يرمي إلى فهم الصورة العامة لسياسة التوازن الناشئة بين الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي وإيران. فمن ناحية، لدينا الفجيعة على مقتل آلاف الفلسطينيين، ومن ناحية أخرى، لدينا النزاع الدائر واستعراض الولايات المتحدة وإسرائيل القوة في مواجهة إيران – والذي يتجلى في استدعاء السفن الأمريكية إلى الخليج، وما إلى ذلك – وكلها عوامل تغذي المخاوف الراهنة.
كثيراً ما أعلن الاحتلال الإسرائيلي عن احتجاجه على برنامج الطاقة النووية الإيراني القائم والمحتمل، ونفذ هجمات سرية غير متكافئة، مثل اغتيال العلماء الإيرانيين، وصرحت إسرائيل بأنها ستمنع إيران من حيازة سلاح نووي، سواء دعمتها الولايات المتحدة في ذلك أم لم تدعمها.
ومع ذلك، فإن جميع السيناريوهات المذكورة تستند إلى توقعات مستقبلية غير محسومة إلى حد بعيد. ويميل الخبراء إلى أن تصعيد التوترات قد يؤدي لتوسيع دائرة الحرب الجاري مما قد يعني دخول إيران أو أحد أذرعها "حزب الله"، وهي إحدى أبرز الدول المنتجة للنفط، إلى صراع مباشر مع الاحتلال. ولا شك أن ذلك يعني انتكاسة لأسواق النفط، لا سيما أن إيران تطل على الطرق الرئيسة لشحن النفط في الخليج العربي. وقد ينجم عن ذلك انقطاع إمدادات النفط، واضطراب تكاليف الطاقة العالمية، وهو ما يؤثر في خدمات الشحن والنقل والتصنيع ومختلف القطاعات المعتمدة على النفط.
وبالنظر إلى أن الشرق الأوسط مركز مهم للتجارة الدولية، فإن اضطرابات التجارة الإقليمية تحظى بنصيب وافر من اهتمام الخبراء. فهذه الاضطرابات لا تعطِّل سلاسل التوريد فحسب، بل تقطع كذلك تدفق السلع والخدمات من البلدان المجاورة وإليها. وقد أشار تقرير نشرته وكالة Bloomberg الأمريكية حديثاً إلى أن اندلاع صراع مباشر بين إسرائيل وإيران يمكن أن يوجه ضربة قوية للاقتصاد العالمي، ويفضي إلى ركود عالمي محتوم في ظل التهاوي في قيمة الأصول المحفوفة بالمخاطر، وارتفاع التضخم. وإن زاد على ذلك أن قررت طهران إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره خُمس إمدادات النفط العالمية كل يوم، فإن الطاقة الإنتاجية لكثير من الدول لن تتمكن من تحمل هذا العبء.
ماذا عن موقف القوتين العالميتين العظميين؟
لا تقتصر الأخطار على التهديدات التي تواجه التجارة الإقليمية وانقطاع إمدادات النفط، فهناك عامل آخر يمكن أن يقودنا إلى تداعيات اقتصادية متعددة الأوجه، ومشكلات جيوسياسية كبرى. فالصين والولايات المتحدة، أكبر قوتين في العالم، تتباين مواقفهما -إن لم تتعارض- بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة المتصاعد.
ومع أن الصين اتخذت موقفاً محايداً في العموم، ودعت إلى حل الدولتين بالمفاوضات السلمية، فإنها لطالما أعربت عن قلقها بشأن اضطراب الوضع الإنساني في فلسطين. وأبدت بكين رد الفعل نفسه بعد التصعيد الأخير، إلا أنها أقدمت على خطوة جريئة إلى حد ما، فقد أفادت تقارير أن بكين أزالت الاحتلال الاسرائيلي من خرائطها الرقمية، وربط كثيرون هذه الخطوة بالعدوان الهمجي الجاري على الفلسطينيين. إلا أن مسؤولين صينيين نفوا هذه التقارير بعد ذلك، وقالوا إن "الخرائط قد لا تظهر أسماء أو أعلام بعض المناطق بسبب ضيق المساحة". ومع ذلك، فقد كانت الصين من أوائل الدول التي اعترفت بفلسطين دولة مستقلة حين أعلنت عن ذلك في عام 1988.
في المقابل، كانت الولايات المتحدة من الدول الداعمة للاحتلال الإسرائيلي تاريخياً، وهي أكثر دولة قدمت مساعدات لإسرائيل منذ تأسيسها عام 1948. وقد حرصت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على مساندة الاحتلال بإصرار في حربه على فصائل المقاومة الفلسطينية. وتشير التقارير إلى أن الإمدادات والأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة أدى استخدامها إلى مقتل وإصابة عشرات آلاف الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر.
يتبين لنا بذلك أن القوتين العظميين يقفان على طرفي نقيض من الأزمة، وهو ما يعني أن تصاعد التوتر في الشرق الأوسط يمثل تهديداً أكبر للاقتصاد العالمي. فأي تنازع أو خلاف بين هاتين القوتين من الممكن أن يبدل المسار كله، أو يؤدي بالأحرى إلى إعصار جارف يدفع بنا إلى الركود العالمي. وغني عن القول أن أي صراع بين هاتين القوتين، اللتين تتحكمان في حصة كبرى من الاقتصاد العالمي، يعني الانحدار إلى التباطؤ الاقتصادي واضطراب الأسواق المالية، وتخلخل قيم العملات، واهتزاز قيم الأصول المالية. ولن تلبث أن تمتد هذه التداعيات السلبية بتأثير الدومينو حتى تصيب عواقبها مختلف الاقتصادات في العالم.
لا تزال الآراء متباينة بشأن مسار العدوان الحالي على غزة. ولا شك أن توسع الحرب ومشاركة دول أخرى فيها سيؤديان إلى تعميق آثارها الاقتصادية، إلا أن هذا المسار غير مرجح حتى الآن. بيد أنه من المؤسف أننا لا يمكننا أن نقطع باستبعاد هذا الاحتمال.
الخلاصة أن استمرار العدوان الحالي على غزة شديد الخطورة على جميع المستويات الانسانية والسياسية والاقتصادية، لأنه يزيد من تشابك السياسات الإقليمية والدولية، ويُفضي إلى تأثيرات بعيدة المدى على الاقتصاد العالمي. ولا تقتصر تداعيات الصراع على تثبيط الاستثمارات المالية، بل تمتد إلى تعطيل التنمية الاقتصادية والإضرار بالتعاون الإقليمي بين عدة دول. ومن ثم، فإن نجاح الدول ذات النفوذ في إنهاء هذا الصراع -أو إخفاقها- لن يحدد مستقبل المنطقة فحسب، بل العالم أيضاً.
من المحزن والمعيب أن الحرب لا تزال مستمرة، فالخسائر البشرية التي يتكبدها الشعب الفلسطيني لا يمكن قياسها بأي وحدة قياس اقتصادية. وآمل أن يأتي ذلك اليوم الذي أتحدث فيه عن الاقتصاد فقط، يوم يسود فيه العدل ولا يموت فيه الأبرياء والأطفال من حولنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.