في طفولتنا نتعلم من أبوينا محبة هذا العالم من حولنا، ولم نعرف فلسطين والاحتلال الإسرائيلي إلا بعد أن سألنا، وبدون حقد كانوا يقولون لنا: إن فلسطين وأهلها تحارب الاحتلال الإسرائيلي، هذا كان في السبعينات عندما لم يكن هناك وسائل التواصل الحالية التي تفضح الجرائم والمجازر المنفذة في حق الفلسطينيين، وعندما كانت كتبنا المدرسية مملوءة بأناشيد عن فلسطين بحسب مراحل الدراسة.
انتشر مقطع فيديو قصير لمذيعة الجزيرة خديجة بن قنة وهي تحاور جيرالد كوفمان النائب السابق في مجلس العموم البريطاني ومستشار رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ويلسون. كان هوفمان ينحدر من أب بولندي كان يعمل خياطاً في أحد المصانع هناك، ثم تحول هذا النائب إلى اليهودية المتزنة، وأصبح مناصراً للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، بعد أن رأى ظلم الاحتلال لهم في إسرائيل، والمعاملة المقرفة وغير المتزنة على حد تعبيره.
شدني هذا المشهد البسيط وذكرني بطفولتي الهادئة على بحر عُمان الكبير، وكيف أن أهلي كان همهم رعايتي والحث على التعلم حتى أصل إلى مكانة جيدة في المجتمع، ولم أعلم أن هناك شعوباً أنشأت وتنشئ أبناءها على الحقد والتزمت، ويلبسونهم ثوب الاستعلاء والتكبر، بل يرضعونهم معاداة البشر المختلفين عنهم في الملة منذ صغرهم، هذا الأمر يخلق جيلاً مغيباً عن الحقائق التي يجب أن يعرفها.
نحن نتحدث عن رجل توفي في عمر 87 عاماً، أمضى 46 عاماً منها عضواً في مجلس العموم البريطاني (لقب بأب البرلمان) فيما كان بجزء من عمره يؤجج الاحتلال ويساهم في قتل الأبرياء وجزء آخر وهو الجزء المتأخر كان يدافع فيه عن فلسطين وما يتعرض له الفلسطينيون من ظلم، فأمه كما يذكر في المقابلة أرضعته ذلك بأحاديثها، ومن خلال الصندوق الذي تضعه في المطبخ لجمع الأموال الخاصة بتمكين الصهاينة مالياً للمساهمة في قيام الاحتلال الاسرائيلي الذي سيبيد البشر هناك لاحقاً.
وتساءلت: كيف تُكتسب المبادئ؟ وكيف يمكن تغييرها؟، ومتى يمكن التفكير في ذلك؟، لقد أمضى صاحبنا الكثير من حياته وهو يعادي الفلسطينيين، ولا نعلم على وجه الدقة متى فطن لما يقوم به؟، في أي عمر من حياته أدرك أنه على خطأ؟، أن والدته كانت مخطئة على أية حال؟ وكم أم إسرائيلية أخطأت في حقنا؟، هذه أسئلة شاذة وإجاباتها غير حاضرة إلا بمخيلة من قام بالقتل والتدمير بدون سبب واضح، وكذلك بمخيلة من سيرث هذا الحقد ومن سينفذه لاحقاً.
لقد شارك كما يقول في مناصرة الصهيونية والدفاع عنها ثم عندما تأسست إسرائيل قام أيضاً بمناصرتها، ولم يكتفِ بالمناصرة فقط بل قام بالترويج لها، أي شرح أهميتها ونشر الوعي بين الدول حول دورها في توازن القوى بالشرق الأوسط، وحاول التحفيز لها حتى تقوم تلك الدول بالاعتراف بها، وهذا ناتج عن اهتمامه بهذه الدولة الوليدة حيث اعتبر هذا الأمر طبيعياً كونه شاباً تمت تربيته على أمل قيامها، أي كان مشاركاً في المذابح والحروب التي حدثت في فلسطين وفي أيديولوجية الحقد التي طالت كل ما هو ليس إسرائيلياً، كما تحدث عنها في البرلمان وفي الاجتماعات العامة ببريطانيا، ثم أتيحت له الفرصة للذهاب إلى دولة الاحتلال مرات عديدة اجتمع فيها مع السياسيين وانتصر لأفكارهم حول الدولة.
نقطة التغيير التي حدثت لدى هذا البرلماني البريطاني/اليهودي هي المعاملة القاسية التي كان يعامل بها مستوطنو الاحتلال "العرب" خصوصاً بعد حرب الأيام الستة عام 1967، ولطمس ما يسمى فلسطين لم يكونوا يسمونهم العرب الفلسطينيين، وإنما عرب 48، هكذا دون رمزية أخرى، بالإضافة إلى منعهم من الخدمات الإنسانية والوظائف.
لقد أدرك في إحدى زياراته المتكررة للاحتلال، وعند مناقشته لرئيس الوزراء الاسرائيلي حينها الأوكراني الأصل "ليفي إشكول" خلال الأعوام ما بين 1963-1969 أن الطريقة القاسية في التعامل مع شعب آخر لمجرد أنه ينتمي لدين آخر أو إثنية مختلفة ليست هي الطريقة السليمة.
وما أثار اهتمامي في مقطع الفيديو قوله: "إن الفلسطينيين ساميون مثلهم مثل اليهود، وهذا الأمر بالذات هو مثار حديث كل الساسة الغربيين عند معاداة اليهود؛ فالنعت جاهز بمعاداة السامية"، ولا نريد أن يجرنا الحديث إلى أصل كلمة السامية لأنه حديث طويل، حيث يكمل قوله: "أعتقد أن إحساسي بالعدالة يشدني إلى عدم الإيمان أبداً بأن تُعامل مجموعة من الناس مجموعة أخرى بشكل عدواني أو بتعسف، ليس لمجرد أن المسألة تتعلق بفرض الأذى، بل لأن الأمر يتعلق بإيجاد أرضية للعيش المشترك وظروف محترمة".
شهد العديد من اليهود في أوروبا على مر الزمان أنواعاً كثيرة من الاضطهاد كالقتل والتهميش، وتم إقصاؤهم من عدة مهن وقطاعات.
واليوم يمارس الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنوه نفس الممارسات العنصرية والمعادية للسامية بحق الشعب الفلسطيني، حيث يستبيح أرضه وعرضه، ولا يكف عن التضييق على ممارسة المسلمين والمسيحيين لشعائرهم، بل يسلط عليهم المستوطنون مع حماية رسمية من قوات الاحتلال، ليضيقوا على الفلسطينيين في معيشتهم وتجارتهم وتحركاتهم، بالإضافة لذلك يعملون على التحريض وبث الكراهية والعنصرية باتجاه كل ما هو ليس إسرائيلياً داخل الأراضي المحتلة.
لقد تم التنكيل باليهود في القارة العجوز على مر العصور، ويلازم ذلك الذنب أوروبا المتحضرة، فتحاول أن تغسل يديها بمد كل أنواع الدعم بلا توقف للاحتلال الإسرائيلي منذ عقود، لكن هل يجب أن يدفع الفلسطينيون من دمائهم وأرضهم ثمن ما اقترفته أوروبا من مجازر ومذابح؟
هل معاداة السامية تعتمد على الديانة أم أنها خاصة لليهود فقط؟؛ فما حدث لليهود يحدث الآن للفلسطينيين، وكأن أوروبا تستمر بمعاداة السامية بثوب جديد، بينما يمارس الاحتلال معاداة السامية هو الآخر، من خلال القتل وإبادة الفلسطينيين. فبالرجوع إلى حديث جيرالد هوفمان عن ساميّة الفلسطينيين؛ فإن ما يفعله الساميون بالساميين معاداة للساميّة، وأعتقد أن هذا ما يفهمه الاحتلال وداعموه، وهذا ما يعانيه الفلسطينيون، فهل سيوقف ذلك سياسات الدول التي تناصر الاحتلال حالياً؟، أم سيتبرأون من كون الفلسطينيين ساميين؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.