كان بشير الحجي يسير بقدميه على الرمال من شمال غزة إلى جنوبها ضمن مخطط التهجير القسري. وكانت ملامح الأحزان تُهاجر هي الأخرى مع سماحة وجهه المهموم وشعر رأسه المُشتعل بوقار الشيب. وأثناء سيره التقط جنود الاحتلال الإسرائيلي صورة مع بشير ثم أعدموه. كم هو مؤلم أن يخضع الناس للتهجير من أرضهم ويخدعهم الأعداء بالأمان ويغدروا بهم دوماً.
قصة بشير تروي جرائم الاحتلال الإسرائيلي. وتكشف أيضاً عن طبيعة هذه الحرب والمجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال. السردية الإسرائيلية لم تنته، وبعد اقتحام مجمع مستشفى الشفاء واحتجاز الطواقم الطبية وعزل الجرحى والتضييق على الأطفال الخدج، وشل حركة العمل بهذا المستشفى ومحاصرة النازحين تبين عدم دقة المعطيات الاستخباراتية الأمريكية فيما يخص المقر العسكري لحماس أسفل المستشفى؛ لذا وضع بايدن نفسه وإدارته بموقف حرج وألقى اللوم على إسرائيل.
اقتحموا مستشفى الشفاء مرة ثانية. ولكن من الجنوب، نتنياهو أثبت في هذه الحرب أن مدينة غزة يمكن لجيشه تدميرها فليس هناك قانون دولي يمنع جيشه من تدمير غزة، والتنسيق مستمر بين إدارة بايدن وبينه والبيت الأبيض أكد على سردية إسرائيل القائلة بأن حماس تختبئ تحت مستشفى الشفاء وتخزن الأسلحة؛ لذا يفهمون اقتحام الجيش الإسرائيلي لمجمع الشفاء. وبعد تنفيذ مهمة الاقتحام تبين عدم صحة الرواية وكعادتهم جلبوا المعدات العسكرية واعتقلوا المدنيين داخل المستشفى وبدأ العرض وبدأت سرديتهم الأخيرة، فلا توجد أدلة على صحة ثبوت ادعاءاتهم ولم نشاهد بحوزتهم أي أسير، والبيت الأبيض نفى إعطاء إسرائيل أي ضوء أخضر لعملية اقتحام مستشفى مجمع الشفاء الطبي والخطة والتنفيذ إسرائيلية وعاد الإشكال.
منذ بداية الحرب لم أجد أي منطق في السياسة وحتى في قرارات بايدن. وقد ترجع أسباب غياب المنطق من السياسة وقرارات بايدن ذلك المسن الذي فقد التوازن وتعودت قدماه التدحرج من سلم الطائرات الرئاسية ويمكن قياس هذا بعدم منطقية قراراته السياسية وهي تتدحرج أكثر من قدميه. وغياب المنطق من السياسة ليس مقتصراً على شيخ الديمقراطية بايدن، بل ساد مؤسسات الأمم المتحدة ووكالاتها واجتماعاتها، وقرار مجلس الأمن الأخير حول الهدنة الإنسانية يمكن قراءته بهذا السياق.
تقوم مهمة مجلس الأمن بالأمم المتحدة على مبدأ تعزيز السلم والأمن الدوليين. ويتقاطع مع مهمة مجلس الأمن مفهوم سيادة الدول، وبهذا يمكن اعتبار مجلس الأمن كمنظومة تطوعية لتعزيز السلم والأمن العالميين ويترتب على ذلك عدم فرض قرارات مجلس الأمن على الدول، وفي المقابل تكون الدول الأعضاء مخيرة بين قبول تلك القرارات أو رفضها، وهنا الإشكال. ونظراً للخلافات القائمة بين الدول والنزاعات تنعكس داخل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا ما يعيق سن القرارات أثناء النزاعات الدولية التي تخل بمبدأ السلم والأمن الدوليين. ويعتبر ميثاق الأمم المتحدة هو الدستور للأمم المتحدة.
وقرار مجلس الأمن الذي صاغت مالطا نصه يعتبر لازماً كما يظهر القرار تأثير النزاعات والخلافات لاتخاذ قرارات عاجلة في ظل هذه الحرب. وهذا هو القرار الأول الذي اتخذته دول مجلس الأمن في هذه الحرب، ويدعو القرار لهدنة إنسانية وممرات آمنة وحماية الأطفال. وقد صوتت ١٢ دولة لصالح القرار بينما امتنعت أمريكا وروسيا وبريطانيا عن التصويت. أمريكا استخدمت حق النقض لذا تعارض وقف إطلاق النار وتسعى لإدانة حماس، بينما روسيا وبريطانيا وجهة نظرهما مختلفة.
ومع الضغوطات الدولية المتعلقة بخسائر هذه الحرب والمجازر الشنيعة في قطاع غزة نجحت مالطا في تمرير نص هذا القرار بأغلبية، ومهمة القرار الأساسية هدنة إنسانية طويلة وحماية المدنيين وبالتحديد الأطفال وفتح ممرات إنسانية واسعة النطاق، ونظراً لحجم الخسائر الإنسانية والمظاهرات الدولية المطالبة بوقف إطلاق النار تمكن مجلس الأمن من تمرير هذا القرار كمرحلة أولى من نوعها منذ بدء الحرب، ولعل هذا القرار سابق لوقف إطلاق النار، ويتوافق ذلك مع صفقة تبادل الأسرى والتفاوض المستمر بين الطرفين عن طريق قطر التي أشاد بايدن بجهودها في هذا الملف ويبدو أن هناك نتائج إيجابية محتملة.
وبالعودة للموضوع، تبقى الحرب ذات أبعاد أيديولوجية فالشمال يخوض حرباً ضد الجنوب. والغرب يمد إسرائيل بالذخائر والصواريخ. وإدارة بايدن تعمل وفقاً لأهداف براجماتية تخدم مصالحها وتضع إطلاق الأسرى ضمن أهدافها الأساسية؛ حيث تحرص على إتمام تبادل صفقة الأسرى عن طريق قطر. ومقابل عملية طوفان الأقصى يدفع الشعب الفلسطيني ثمن الهجوم. ومن أجل ١٤٠٠ إسرائيلي يحق لإسرائيل إبادة أكثر من ١١٥٠٠ شهيد. ذلك منطق هذه الحرب فدول الشمال لا تعتبر مواطني الجنوب بشراً. هم يعتقدون بذلك ويتعاملون مع هذه الحرب وفقاً لأيديولوجيتهم الإقصائية وخارج المركزية الغربية يفقد الإنسان في الجنوب إنسانيته.
حرب الشمال متوحشة وقيم الشمال زائفة. وإدارة بايدن تواصل سياسة القتل العمد للأبرياء باستخدام الفيتو وتربط إطلاق الأسرى بوقف إطلاق النار. نتنياهو يستمر في تجاوز كل شيء ويستهدف المستشفيات ولا مكان آمناً في غزة. سردية المستشفيات انكشفت للرأي العام. وحرب الشمال ضد الجنوب أكدت بشاعة هذه السياسة القادمة من الغرب الذي نظر عن حقوق الإنسان يوماً ما.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.