مر ما يزيد على الشهر على بداية طوفان الأقصى، وما زال العالم يتابع تطور أحداثها بشكل أشبه بمشاهدة مجريات مسلسل مليء بالإثارة والتشويق؛ يدور حول وقائع حقيقية تماماً لكنها مؤثرة للغاية، وصادمة لدرجة تجعل المتفرج يحتار بين ما إذا كان يشاهد رعباً أم خيالاً علمياً… فالمشاهد قاسية، حتى أن فئة من الجمهور قررت إغماض أعينها لشعورها بأن القلوب لم تعد تحتملها.
أما من قرر المواصلة، فهو يتخبط، خلف الشاشات، بين مشاعر مختلطة وقوية، يحاول التعايش مع أفكار خانقة وضغط نفسي رهيب، يتزايد تحت وطأة أسئلة ثقيلة جداً، أهمها: "ماذا يمكنني أن أفعل؟ ما الشيء الذي باستطاعتي أن أقوم به لأجل الفلسطينيين؟ هل بمقدرتي حقاً التأثير في تطور الأحداث ولو بشكل صغير؟ هل بإمكاني أن أتجاوز دور المتفرج؟ هل لمتابعتي لما يجري أصلاً أي فائدة؟".
في الحقيقة، يتعلق الأمر بسؤال جوهري واحد يطرح بأساليب مختلفة، ويترجم وضعية إشكالية تتقابل فيها الرغبة في القيام بشيء ما، مع الإحساس بالعجز عن ذلك، مما يخلف شعوراً مريراً يدفع بالبعض إلى الاستسلام، بينما يحفز آخرين للبحث عن سبل لتهدئة الصوت الداخلي الذي يوشوش في عقولهم بأن لهم مسؤولية تجاه ما يجري، أو تجاه ما يمكن أن تؤول إليه الأمور، وبأن من واجبهم التصرف بطريقة ما.
المشكلة هي أن القضية عملاقة، وتشغل العالم بأسره، مما يجعل الناس يشعرون بضآلتهم أمام ضخامتها، ويعتقدون أن صوتهم الخافت لن يحرك ساكنا أمام جعجعة أشخاص آخرين أكبر منهم بكثير، بل ويدفعهم للاقتناع بأن أي فعل من طرفهم سيكون دون جدوى. وهذا ما لم أعد أؤمن به، شخصياً، منذ السابع من أكتوبر 2023.
لقد وصلت إلى قناعة مفادها أن بإمكاني، بل ومن الواجب علي، أن أسخر كل الإمكانات المتاحة لي للإسهام في نصرة فلسطين، مهما بدا تأثيرها محدوداً؛ وأدركت أنه في مواقف كهذه، أنا مسؤولة عن الإقدام وبذل الجهد بنية خالصة وليس عن النتائج. ولا أقصد بكلامي هذا التعامل مع الأفعال البسيطة جداً كإنجازات تتوخى منها نتائج خارقة، ولكني أركز فقط على ضرورة عدم تبخيس ولا استصغار أي من هذه الأفعال التي تصب في مصلحة القضية.
تعلمت في الوقت نفسه أهمية دعم مجهودات الغير أيضاً، وإظهار التقدير لهم، قصد تحفيزهم على المواصلة والاجتهاد أكثر، وتشجيع آخرين على الانخراط في هذه الدينامية بطرق أخرى وعلى مستويات مختلفة، حتى ولو كان هذا من خلال تغيير الصورة الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي.
لأكون صريحة، سأعترف أنني كنت من هؤلاء الذين يتهكمون مرددين: "نحن أمة إذا غضبت غيرت صور البروفايل"، ولكنني أحسست برغبة في فعل ذلك أياماً قليلة بعد بداية طوفان الأقصى، ذلك أن الخلفيات السوداء وراية فلسطين غطت أرجاء حساباتي على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي؛ ما جعلني أحس بحاجة لضم صوتي لأصوات من سبقوني، ولأقول بدوري: إنني أهتم وأتابع وأدعم فلسطين؛ نظرت إلى الأمر كوقفة احتجاجية افتراضية، غير محدودة في الزمان ولا المكان، يستطيع أي شخص أن يشارك فيها بسهولة، ويساهم عن طريقها في تسليط الضوء على القضية وجعلها حديث الساعة بامتياز. وفي نظري، هذا أيضاً عنصر مهم وشكل من أشكال نصرة القضية، وسأذهب أبعد من ذلك وأقول إنه شكل من أشكال "المقاومة"، باعتبارنا قد أصبحنا جميعاً طرفاِ في المعركة.
ومن نفس المنطلق أضيف أن مجرد الاهتمام بالقضية مقاومة: مقاومة للامبالاة، وللنزعة الأنانية التي تدفعنا للتفكير في مصلحتنا الشخصية فقط، ولمحاولات طمس القضية، وللجهل بما يجري حولنا.
والتعاطف أيضاً مقاومة، ومتابعة المستجدات بتأثر مقاومة، والدموع التي تنهمر بحرقة خلف الشاشات مقاومة، والتضرع لله بالدعاء لإخواننا الفلسطينيين مقاومة، والتفكير في حالهم طوال اليوم مقاومة، وإخفاء مظاهر الفرح وإظهار معالم الحزن مراعاة لما يعيشونه مقاومة، والحديث عن القضية في البيت والعمل والمقهى ومختلف الفضاءات والمنصات مقاومة، والتغني برموز التراث الفلسطيني مقاومة، والتعرف والتعريف بالقضية مقاومة، وعدم التأثر بالمتخاذلين ومثبطي العزائم مقاومة، وتربية النشء على حب فلسطين مقاومة، وفضح جرائم العدو مقاومة، والمشاركة في المظاهرات والمسيرات التضامنية مقاومة، ومقاطعة منتجات وماركات العدو مقاومة، والنضال الإبداعي بالرسم والكاريكاتير والشعر والأناشيد وغيرها مقاومة، وصناعة المحتوى بهدف نشر الوعي ودحض أكاذيب العدو مقاومة، والتصميم وتطوير المنصات والتطبيقات لدعم القضية مقاومة، وتسخير المهارات اللغوية والتقنية مقاومة، وتشجيع مبادرات الآخرين الداعمة لفلسطين والتفاعل معها مقاومة، والتطوع والتبرع مقاومة، والدعوة إلى المقاومة مقاومة.
طبعاِ، كل هذا لا يمكن أن يقارن – ولو من بعيد- بما يبذله الفلسطينيون، وما قدومه وما زالوا يقدمونه من تضحيات مبهرة تجسد روح المقاومة الحقة، إلا أنه، وفي ظل وجود معركة افتراضية بالتوازي مع المعركة الحقيقية، وبالنظر للموارد المالية واللوجستية الكبيرة التي يسخرها العدو دعماً لجيوشه الإلكترونية وحربه الإعلامية، فلابد لكل واحد منا أن يأخذ القرار بشأن ما إذا كان سيقاوم من موقعه، وبإمكاناته، وبأساليبه التي ستكون قيمة ولو كانت بسيطة، أم أنه سيختار الوقوف في صف الشيطان الأخرس، ساكتاً عن الحق بقلبه ولسانه، غير مهتم ولا آبه، أو مدرك وغير متفاعل، يتوارى خلف أعذار واهية، مهما حاول جعلها تبدو مقنعة تبقى خسيسة.
في الختام، لا بد من التأكيد على أهمية الالتزام الجدي والجاد، فلا يحركنا الرياء بدل الإخلاص، ولا نتعامل مع القضية كتريند، ولا نخدع أنفسنا بالقيام بالقليل بينما نستطيع بذل أكثر؛ كأن نكون صناع قرار ونكتفي بالتنديد والشجب، لا سمح الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.