مر أكثر من شهر على الحرب، خلال تلك الأيام الطويلة، اكتشفنا أننا لا نعيش في العالم الذي كنا نعتقد أننا جزء منه أو أنه جزء منّا؛ ببساطة لأن العالم الذي نعيش فيه يُدار من أنظمة تمنع الهواء إذا استطاعت.
لاحظت أن اسم فلسطين يُكتب هكذا "فـ..لســـ…طـــ…ين" لكي ينجو من الحظر، الحظر المفروض على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تُشكل هاجساً كبيراً في حجب ومنع أي محتوى يتحدث عن القضية الفلسطينية.
شعرت لأول مرة بالخوف الشديد، ليس خوفاً من البطش، وإنما خوف من جُبن العدو نفسه؛ عدو يُحاول طمس هوية موجودة قبل أن تولد دولته، عدو يسعى إلى إخفاء الحقيقة بأنظمة مُسبقة ومُجهزة خصيصاً وفقط لإخفاء الحقيقة!
شعرت بأن الأمر يحتاج إلى ما هو أكبر من السلاح، وأن الأصوات تُخيفهم، والكلمات تُرعبهم، والحديث يجعلهم يرتعشون في أماكنهم كأنهم يعلمون من هُو المذنب فعلاً.
في ظل هذا التهميش والقمع المُرعب لهذه القضية على مدار سنوات، اتجهت معظم مدرجات كرة القدم إلى توثيق علاقة قوية بينها وبين القضية، وأعلنت مدرجات كرة القدم نفسها أنها المُوكل الرسمي بالحديث عن الأحداث، ليس منذ اللحظة الحالية فحسب؛ وإنما منذ زمن بعيد.
حيث اتجهت المدرجات إلى فكرة توثيق هذه القضية بالرسومات، والهتافات، أو حتى عن طريق تصوير ما يحدث في صمت شديد عبر منصات السوشيال ميديا التي أراد مالكوها أن يصمتوا ويمنعوا الناس من الحديث كذلك.
خلال الشهر الأخير، رأينا جماهير سيلتيك الإسكتلندي ترفع أعلام فلسطين، كعادة هذه الجماهير التي تعتقد أنها عاشت في قمع واحتلال بريطاني لسنوات، وأصبحت تكره أن يتعرض أي إنسان إلى نفس الفكرة أو يُحرم مما حُرموا منه.
كانت فلسطين موجودة كذلك في مدرجات إقليم الباسك، بين أتلتيك بلباو وكذلك نادي ريال سوسيداد، وأيضاً كانت موجودة في حدث رسمي لدى جماهير ريال سوسيداد التي قررت أن تؤلف مجموعة من بينها لرفع المشهد في صورة دموية، لكن الفارق الوحيد أن الممثلين كانوا أشخاصاً لم يروا دماء الفلسطينيين من قبل.
بينما اتخذت جماهير أوساسونا المحنة إلى مرحلة أعلى؛ فقررت أن تحرم أي إسرائيلي من دخول ملعبها، وكان ذلك في مباراة نادي أوساسونا أمام نادي غرناطة، والتي كانت قصتها قصة.
حيث يُمثل نادي غرناطة لاعباً إسرائيلياً اسمه "شون فايسمان"، وهو اللاعب الذي قرّر أن يُمثل الاحتلال الإسرائيلي عبر منتخبها المسروق أيضاً حتى من لاعبين عرب.
شون فايسمان، أبلغوه في غرناطة بأنه لا ينبغي له أن يُسافر نحو أوساسونا، وحُرم بالفعل من الصعود إلى الطائرة مع بقية الزملاء الذين اتجهوا إلى هناك، وقررت الشرطة الإسبانية تفادي أي سيناريو مؤلم بينه وبين الجماهير الساخطة التي ترغب في رؤية مثال واحد لهذا الكيان لتفتك به.
غادر فريق غرناطة نحو أوساسونا دون شون، وتواجه مع جماهير قررت أن ترفع أعلام فلسطين عالياً، أعلى حتى من المستوى الذي يُحاول الإعلام حجبه مهما ارتفع، وأصدق ممن كانوا مشغولين باستعراض صور غريبة عنهم رغم أنهم كانوا أهلاً لهذه الأحداث عن الغرباء!
أسرني هذا المشهد في بلاد غربية تماماً، ليس فقط لأننا نرغب في رؤية الدعم الكامل لفلسطين التي حُرمت لسنوات حتى من كتابة اسمها بشكل صحيح، وحُرمت من حجز مقعد رئيسي في أراضيها، وحُرمت حتى من الأبناء الضالين الذين اختاروا أن يُمثلوا الاحتلال الإسرائيلي نظير مقابل رخيص.
بينما على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، كانت جماهير نادي الأهلي بنغازي الليبي قد أعلنت دعمها الكامل لصالح القضية، لكنهم حينما تحدثوا وضعوا الفكرة باختصار شديد وبطريقة أراها أبلغ من ألف معنى: "عودوا إلى الدين تعد لنا فلسطين".
في مصر بالطبع لم تتأخر جماهير الأهلي والزمالك عن إظهار هذا الدعم الكبير للقضية الفلسطينية، والتي كانت دائماً من أبرز الداعمين العرب لهذه القضية على مدار سنوات طويلة، ومن أكثر من توجه نحو الوقوف بجوارها مهما تخلى الناس عنها.
في الجهة المصرية الساحلية، كانت جماهير النادي الإسماعيلي بالكامل تدعم وتُساند، حالها حال المصري البورسعيدي وكذلك نادي الاتحاد السكندري، وهو أمر ليس غريباً على جماهير الكرة المصرية التي تُمثل الشعب المصري نفسه الذي يغضب لما يحدث لفلسطين، منذ أن قامت القضية.
تونس كذلك كانت إحدى الواجهات الرسمية للدفاع التام والكامل عن هذه الفكرة، التي يُحاول بعض الصهاينة العرب أكثر من غيرهم طمسها بعبارات ساذجة، وكذلك كانت جماهير النادي الإفريقي تُحضّر لواحدة من أقوى الدخلات في تاريخ كرة القدم العربية الحديثة، وفي المقابل كان الترجي الرياضي التونسي يتسلح بالعلم الفلسطيني في منافسات بطولة الدوري الإفريقي المستحدث على القارة.
كل هذه التفاصيل ساهمت في جعل القضية الفلسطينية باقية على قيد الحياة داخل وعينا وأرواحنا، وجعلتها تُكتب بطريقة أجبرت الجميع على البحث عن: لماذا يحجبونها عنّا؟
لو كنت مواطناً من قارة أوروبا، سأسأل نفسي سؤالاً مهماً: لماذا يحجبون عنّا أي محتوى عن فلسطين؟ لماذا يتباكى الاحتلال على ضحاياه أكثر ولماذا يستحوذ على الشاشة والمشهد؟ لماذا إذا كتبنا اسم فلسطين توقف انتشار حسابنا أو أُغلق أو تم تقليل وصول التفاعل فيه؟ ولماذا كل هذا الخوف من فلسطين؟ وكل من يحمل اسمها وحبها متهم طوال الوقت؟ بينما الاحتلال الجاني يستمر في تمثيل دور المجني عليه.
في الحقيقة، لو كنت مكان هؤلاء القوم، لفكرت كثيراً في حقيقة ما يحدث، وبحثت حتى حصلت على إجابة شافية، لا تظهر في الإعلام الذي يدعم إسرائيل كأنها ابنته بالتبني، ويهتم بالأطفال الذين يُعانون من القلق في إسرائيل جراء ما يحدث، بينما لا يكترث إطلاقاً بكومة الجثث من أطفال لم يعرفوا في حياتهم سوى شيء وحيد: قنابل إسرائيل، والتضحية الدائمة من أجل أرضهم وبيوتهم، مهما كلفهم الأمر من عناء، حتى وإن كانت التكلفة أرواحهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.