"إني أفقد الأمل في تحقيق أماني اليهود في فلسطين، وإن اليهود لن يستطيعوا دخول الأرض الموعودة، ما دام السلطان عبد الحميد قائماً في الحكم، مستمراً فيه".
هكذا آلت الحال بزعيم اليهودية العالمية تيودر هرتزل، بعدما استخدم كل الأسباب، واستنفد كل الوسائل، من إغراء مالي، وضغط اقتصادي، ووعود سياسية، وأوراق دبلوماسية مع السلطان عبد الحميد الثاني، لبيع فلسطين وتسليم القدس. ولكن السلطان عبد الحميد رغم الكل الضغوط اليهودية، مع ما تواجهه الدولة العثمانية آنذاك من صعوبات، أبى إلّا أن ينال شرف الحفاظ على بيت المقدس والذود عن حياضه. فانتظم في مسرح تاريخ أحداث بيت المقدس عِقدٌ ذهبي مُشرّف، وهو الفتح العمريّ، والتحرير الصلاحيّ، والدفاع العثماني المتمثّل بالسلطان عبد الحميد الثاني، وكتبت في هذه الأحداث العظمى والفتوح الكبرى مقالين نُشرا سابقاً، وأُثلّثمها الآن بهذا.
إن أمر اليهود وعداءهم للإسلام تعود جذوره إلى ظهور الإسلام، منذ أن انتصر الإسلام وأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة المنورة، لخياناتهم المتكررة، وعداواتهم الدائمة، ومن ثم عن سائر الجزيرة العربية في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وهم يكيدون له، وقد تظاهر بعضهم بالإسلام، وبث السموم في جسم الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل، وما عبد الله بن سبأ، والقرامطة، والحشاشون، والراوندية، والدعوات الهدامة التي ظهرت في تاريخ المسلمين عنهم ببعيد.
1- الضغط على الدولة العثمانية للاستيلاء على فلسطين من زعيم اليهودية العالمية هرتزل:
استطاع زعيم الحركة الصهيونية العالمية تيودر هرتزل أن يحصل على تأييد أوربيّ للمسألة اليهودية من الدول "ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا"، وجعل من هذه الدول قوةَ ضغط على الدولة العثمانية، تمهيداً لمقابلة السلطان عبد الحميد، وطلب فلسطين منه، وكانت الدولة العثمانية تعاني من مشاكل مالية متعددة؛ إذ كانت الأحوال الاقتصادية في البلاد على درجة من السوء، حيث فرضت الدول الأوربية الدائنة وجودَ بعثة مالية أوربية في تركيا العثمانية، للإشراف على أوضاعها الاقتصادية؛ ضماناً لديونها، الأمر الذي دفع عبد الحميد الثاني لأن يجد حلاً لهذه المعضلة.
2- الإغراء المالي للتأثير على قرارات السلطان عبد الحميد
كانت هذه الثغرة هي السبيل الوحيد أمام هرتزل كي يؤثر على سياسة عبد الحميد الثاني تجاه اليهود. وفي هذا الصدد يقول هرتزل في مذكراته: "علينا أن ننفق عشرين مليون ليرة تركية لإصلاح الأوضاع المالية في تركيا.. مليونان منها ثمناً لفلسطين، والباقي لتحرير تركيا العثمانية بتسديد ديونها، تمهيداً للتخلص من البعثة الأوروبية.. ومن ثم نقوم بتمويل السلطان بعد ذلك بأي قروض جديدة يطلبها".
لقد أجرى هرتزل اتصالات مكثفة مع المسؤولين في ألمانيا، والنمسا، وروسيا، وإيطاليا، وإنجلترا، وكانت الغاية من هذه الاتصالات هي إجراء حوار مع عبد الحميد الثاني. وفي هذا الصدد فقد نصح لاندو منذ 21 فبراير 1869م، الصديق اليهودي لهرتزل، أن يقوم بواسطة صديقه نيولنسكي رئيس تحرير "بريد الشرق". وفي هذا المجال يقول هرتزل: "إنْ نحن حصلنا على فلسطين سندفع لتركيا كثيراً، أو سنقدم عطايا كثيرةً.. لكي تتوسط لنا، ومقابل هذا نحن مستعدون أن نسوي أوضاع تركيا المالية، سنأخذ الأراضي التي يمتلكها السلطان ضمن القانون المدني، مع أنه ربما لم يكن هناك فرق بين السلطة الملكية والممتلكات الخاصة".
وقام هرتزل بزيارة إلى القسطنطينية، وذلك في يونيو عام 1896م، ورافقه في هذه الزيارة نيولنسكي، الذي كانت له علاقة ودية مع السلطان عبد الحميد، ونتيجةً لذلك فقد نقل نيولنسكي آراء هرتزل إلى قصر يلدز، وقد دارت محاورة بين نيولنسكي والسلطان عبد الحميد؛ إذ قال السلطان له: "هل بإمكان اليهود أن يستقروا في مقاطعة أخرى غير فلسطين؟) أجاب نيولنسكي قائلاً: "تعتبر فلسطين هي المهد الأول لليهود، وعليه فإن اليهود لهم الرغبة في العودة إليها"، وردّ السلطان قائلاً: "إن فلسطين لا تعتبر مهداً لليهود فقط، وإنما تعتبر مهداً لكل الأديان الأخرى". أجاب نيولنسكي قائلاً: "في حالة عدم استرجاع فلسطين من قبل اليهود فإنهم سوف يحاولون الذهاب، وبكل بساطة إلى الأرجنتين".
وقام السلطان عبد الحميد بإرسال رسالة إلى هرتزل بواسطة صديقه نيولنسكي جاء فيها: "انْصَح صديقك هرتزل ألّا يتخذ خطوات جديدةً حول هذا الموضوع، لأنَّي لا أستطيع أن أتنازل عن شبرٍ واحد من الأراضي المقدسة، لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي. وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزقت دولتي فمن الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولاً في جثتنا، ولكن لا أوافق على تشريح جثتي وأنا على قيد الحياة".
3- استخدام الطريق الدبلوماسي ووعود بتهدئة الأرمن
إزاء إخفاق هرتزل بالإغراء المالي قرر أن يستخدم وسائل أخرى لاستمالة عبد الحميد الثاني، حيث عرض عن طريق نيولنسكي خدمته بواسطة القضية الأرمنية، وفي هذا الصدد يقول هرتزل: "طلب مني السلطان أن أقوم بخدمة له، وهي أن أؤثر على الصحف الأوروبية؛ بغية قيام الأخيرة بالتحدث عن القضية الأرمنية بلهجة أقل عداءً للأتراك، أخبرت نيولنسكي حـالاً باستعدادي للقيام بهذه المهمة، ولكني أكدت على إعطائي فكرةً وافيةً عن الوضع الأرمني: مَنْ هم الأشخاص في لندن الذين يجب أن أقنعهم بما يريدون، وأي الصحف يجب أن نستميلها لجِهتنا، وغير ذلك".
وعلى هذا الأساس فقد نشطت الدبلوماسية الصهيونية لإقناع الأرمن بالتخلي عن ثورتهم. ونتيجةً لذلك فقد اتصل هرتزل مع سالزبوري، والمسؤولين الإنجليز بغية استخدامهم للضغط على الأرمن، كما نشط اليهود في مدن أوروبية أخرى مثل فرنسا للقيام بالدور نفسه، إلا أن دبلوماسية هرتزل قد أخفقت بسبب عدم تحمس بريطانيا؛ لأن ذلك كان يعني تأييد سياسة عبد الحميد، الأمر الذي يؤدي لإثارة الرأي العام البريطاني ضد الحكومة.
4- استخدام الضغط الاقتصادي والإغراء المالي مرة أخرى
قد حاول هرتزل لقاء عبد الحميد الثاني، ولا سيما أثناء الزيارة الثانية للإمبراطور وليام الثاني إلى القسطنطينية، إلا أن موظفي قصر يلدز منعوه من ذلك. واستمر هرتزل في محاولاته المستمرة حتى تكللت جهوده بالنجاح بعد سنتين (1899ـ1901م) من الاحتكاك المباشر مع الموظفين الكبار لقصر يلدز من مقابلة عبد الحميد، حيث قابل السلطان لمدة ساعتين، وقد اقترح هرتزل قيام البنوك اليهودية الغنية في أوروبا بمساعدة الدولة العثمانية، لقاء السماح بالاستيطان في فلسطين، بالإضافة إلى ذلك فإنه قد أكد لعبد الحميد أنه سوف يخفف الديون العامة للدولة العثمانية، وذلك منذ عام 1881م، وقد وعد هرتزل عبد الحميد بأن يحتفظ بمناقشاته السرية معه.
كان السلطان عبد الحميد خلال مقابلته مع هرتزل مستمعاً أكثر منه متكلماً، وكان يرخي لهرتزل في الكلام؛ كي يدفعه أن يتحدث بكل ما يخطر في مخيلته من أفكار، ومشروعات، ومطالب، وقد أدى هذا الأمر إلى أن يعتقد هرتزل بأنه نجح في مهمته هذه، ولكنه أدرك في نهاية الأمر أنه قد أخفق مع عبد الحميد، وأنه أخذ يسير في طريق مسدود معه.
وبعد إخفاق جهود هرتزل عند عبد الحميد الثاني، تحدث هرتزل قائلاً: "في حالة منح السلطان فلسطين لليهود سنأخذ على عاتقنا تنظيم الأوضاع المالية، أما في القارة الأوربية فإننا سنقوم بإيجاد حصن منيع ضد آسيا، وسوف نبني حضارةً ضد التخلف، كما سنبقى في جميع أنحاء أوروبا بغية ضمان وجودنا".
5- تصريحات يهودية مغلّفة بالتهديد
في الحقيقة كان عبد الحميد يرى أنه من الضروري عدم توطين اليهود في فلسطين؛ كي يحتفظ العنصر العربي بتفوقه الطبيعي.
وكانت الدولة العثمانية تسعى في أحيان كثيرة إلى إبعاد اليهود العثمانيين عن أفكار هرتزل، والحركة الصهيونية، ومع ذلك فإنها في أحيان أخرى كانت تستخدم لغة التهديد معهم.
ورغم إخفاق جهود هرتزل عند السلطان عبد الحميد فإن هرتزل كتب قائلاً: "يجب تملّك الأرض بواسطة اليهود بطريقة تدريجية، دونما حاجة إلى استخدام العنف، سنحاول أن نشجع الفقراء من السكان الأصليين على النزوح إلى البلدان المجاورة بتأمين أعمال لهم هناك، مع حظر تشغيلهم في بلدنا. إن الاستيلاء على الأرض سيتم بواسطة العملاء السريين للشركة اليهودية، التي تتولى بعد ذلك بيع الأرض لليهود، علاوةً على ذلك تقوم الشركة اليهودية بالإشراف على التجارة في بيع العقارات وشرائها، على أن يقتصر بيعها على اليهود وحدهم.
وكتب هرتزل قائلاً: "أقر على ضوء حديثي مع السلطان عبد الحميد الثاني أنه لا يمكن الاستفادة من تركيا إلا إذا تغيرت حالتها السياسية، أو عن طريق الزج بها في حروب تهزم فيها، أو عن طريق الزج بها في مشكلات دولية، أو بالطريقتين معاً في آن واحد".
6- السلطان عبد الحميد يردُّ بالكلام الحاسم والقرار القاسم
إن عبد الحميد كان يعرف أهداف الصهيونية؛ حيث قال في مذكراته السياسية: "لن يستطيع رئيس الصهاينة هرتزل أن يقنعني بأفكاره، وقد يكون قوله ستُحل المشكلة اليهودية يوم يقوى فيها اليهودي على قيادة محراثه بيده صحيحاً، في رأيه هو يسعى لتأمين أرض لإخوانه اليهود، لكنه ينسى أن الذكاء ليس كافياً لحل جميع المشاكل.. لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين، بل يريدون أموراً مثل تشكيل حكومة، وانتخاب ممثلين، إنني أدرك أطماعهم جيداً، لكن اليهود سطحيون في ظنهم، أنني سأقبل بمحاولاتهم، وكما أنني أقدر في رعايانا من اليهود خدماتهم لدى الباب العالي، فإني أعادي أمانيهم وأطماعهم في فلسطين".
وعن القدس يقول عبد الحميد الثاني: "لماذا نترك القدس.. إنها أرضنا في كل وقت، وفي كل زمان، وستبقى كذلك، فهي من مدننا المقدسة، وتقع في أرض إسلامية، لا بد أن تظل القدس لنا".
لقد كان غرض السلطان عبد الحميد في استماعه إلى تيودور هرتزل معرفة الآتي:
1ـ حقيقة الخطط اليهودية.
2ـ معرفة قوة اليهود العالمية، ومدى قوتها.
3ـ إنقاذ الدولة العثمانية من مخاطر اليهود.
وشرع السلطان عبد الحميد في توجيه أجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية لمتابعة اليهود، وكتابة التقارير عنهم، وأصدر إرادتين سنيتين: الأولى في 28 يونيو 1890م، والأخرى في 7 يوليو 1890م. في الأولى "رفض قبول اليهود في الممالك الشاهسانية" والأخرى: "على مجلس الوزراء دراسة تفرعات المسألة، واتخاذ قرارٍ جديٍّ وحاسم في شأنها".
واتخذ السلطان عبد الحميد الثاني كل التدابير اللازمة في سبيل عدم بيع الأراضي إلى اليهود في فلسطين، وفي سبيل ذلك عمل جاهداً على عدم إعطاء أي امتياز لليهود من شأنه أن يؤدي إلى تغلب اليهود على أرض فلسطين. ولا بد في هذه الحالة أن تتكاتف جهود المنظمات الصهيونية، بغية إبعاد السلطان عبد الحميد الثاني عن الحكم. ويعزز هذا القول هرتزل عندما قال: "إني أفقد الأمل في تحقيق أماني اليهود في فلسطين، وإن اليهود لن يستطيعوا دخول الأرض الموعودة ما دام السلطان عبد الحميد قائماً في الحكم، مستمراً فيه".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.