تشاء الأقدار أن تتحول غزة، تلك المساحة الجغرافية الصغيرة من فلسطين الكبرى، إلى نقطة تحوّل في العالم أجمع سياسياً ودبلوماسياً، أمنياً واقتصادياً، رسمياً وشعبياً، وتشاء الأقدار أيضاً أن يستحيل حدث في منطقة صغيرة من العالم إلى درس تاريخي يتعلم منه العالم، شعوباً وحكاماً، وإلى عبرة وعلامة كونية فارقة لها ما بعدها.
إذ مثلت عملية "طوفان الأقصى" حدثاً استثنائياً في الصراع العربي-الإسرائيلي، وفي تاريخ المقاومة الفلسطينية. فالعملية التي أطلقتها المقاومة في هجوم متعدد الجبهات على المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة المحاصَر منذ عام 2006، هي الأولى من نوعها التي يأخذ فيها الطرف الفلسطيني زمام المبادرة ويشن عملية بهذا الاتساع على الطرف الإسرائيلي.
وهذا يُعَدّ معجزة على صعيد صناعة الحدث أو القدرة على قلب الحدث لصالح قوى المقاومة، فغزة المقاوِمة أضحت تكبر ككرة الثلج يوماً بعد يوم، فلا يكاد يمضي يوم إلا وتحققت أهداف، وانكشفت خبايا وتعرّت نوايا، وفتحت أسرار وسقطت أقنعة عن العالم الذي اعتقدنا أننا جزء منه.
إذ لا يخفى على أحد ما يحدث من تحولات وانعطافات كبرى في النظام العالمي اليوم، إذ يمكن ملاحظة الارتباك الدولي الحاصل، والمواقف المتناقضة لكبار قادة الدول الكبرى، وحرب التصريحات والتصحيحات والتراجعات في مواقف القوى العظمى، وليس خافياً أيضاً، الوجوه المتوترة والوجلة والمرتبكة مما هو حاصل من عارٍ على جبين العالم جراء حرب الإبادة والتقتيل الجماعي للمدنيين والقصف المتعمَّد للأطفال والمستشفيات وسيارات الإسعاف والطواقم الطبيّة، حرب عرّت وفضحت كل شيء أمام أنظار شعوب العالم .
إن كل ما يحدث هو نتيجة حتمية لفشل المقاربات الدولية والإقليمية في التعامل مع القضية الفلسطينية. بالإضافة إلى عجزها عن وقف الاحتلال الإسرائيلي وعدم قدرتها على تنفيذ أي قرارات صادرة عن مجلس الأمن، فإن الأطراف الإقليمية والدولية فشلت في التصدي للتحديات المتعلقة بقطاع غزة منذ الحصار.
و تُعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي هما أول من فرضا الحصار على غزة، إذ استمرت الأطراف الإقليمية والدولية في تأزيم الانقسام الفلسطيني وفرض الحصار على غزة، من خلال دعم طرف على حساب الآخر، مما أدى إلى تعميق الشق الفلسطيني. وفي هذا السياق، يعيش سكان القطاع، البالغ عددهم قرابة المليونين، تحت ظروف "غير صالحة للحياة"، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
ولم يقتصر الضغط على غزة على حالات الحصار والقيود المفروضة على القطاع، بل قام الاحتلال بشن أكثر من 5 حروب على غزة منذ انسحابها من القطاع في عام 2005. كل ذلك، بدون إشارة إلى العمليات المستمرة للقصف والاغتيالات، فضلاً عن التصعيدات المحدودة. وبالتوازي مع هذه الأحداث، سعت الأطراف الإقليمية والدولية إلى تجريد حماس والقطاع من الدعم السياسي، محاولة منها لمنع تحقيق أي تقدم سياسي، أو حتى تحقيق بعض التحسينات بعيدة عن أوقات الحروب.
واليوم تأتي تنتفض تلك البقعة الجغرافية الصغيرة لتبرز كل ذلك الزيف العالمي وتسقطت الأقنعة الكاذبة، وتذيب جليد تلك المبادئ المُقَنعة والمزخرفة عن حقوق الإنسان والكرامة والعدالة والمساواة والقانون الدولي المزعوم وإلى ما هنالك من أغانٍ طال التغني بها في المجالس والأوراق والمؤتمرات التي أصبحت اليوم في مهب الريح ، حيث يبرز النفاق وازدواجية المعايير، ويسقط ستار الأكاذيب عن الحلول السلمية والمعاهدات الزائفة، فغزة اليوم أضحت كاشفة لكل النوايا والخبايا والأسرار العابرة للقارات والدول، وفي الغد القريب المزيد والمزيد .
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.