إذا ما ابتعدنا قليلاً عن أجواء المعركة الضارية الجارية في أرض غزة، وقررنا الخوض في الجانب السياسي لهذا العدوان، فإن اللافت في هذه الحرب هو فقدان آلية عمل صنع القرار في إسرائيل، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية في وقت الأزمات، وهذا بعكس ما يحصل على الطرف المقابل، وهو الجانب الفلسطيني، حيث يبدو كل شيء يجري وفق ما هو مخطط له، ولا قرارات مستعجلة ولا قرارات مدروسة لا مبنية على الإحساسات.
خسارة المعركة السياسية
على المستوى السياسي، فقد خسر الاحتلال الإسرائيلي الكثير من الدعم الشعبي الغربي الذي بُني في البداية على أساس العرق والدين، فحجم التوحش الذي مارسه الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة لم يعُد يقنع أحداً في أوروبا والولايات المتحدة.
تمسك الاحتلال بنظرية "الانتقام"، ولم يتخل عنها إلى هذه اللحظة. وتأتي خسارة إسرائيل لهذه المعركة بسبب غياب الوعي التحليلي لدى صناع القرار هناك بأن البروباغندا الرسمية ووسائل الإعلام الغربية التي ضللت الحقائق، ستفشل في هزيمة من يبث الحقائق بالصوت والصورة من موقع الحدث على وسائل التواصل الاجتماعي.
منصات التواصل الاجتماعي تحولت إلى مصدر أول لرواية الحرب الدائرة في غزة، وذلك لأنها تعكس الواقع المؤلم الذي يعاني منه الشعب هناك، وتعكس الحصار ومنع دخول المياه والدواء والغذاء، وتعكس كذلك الاستهداف المتعمد للمرافق الصحية في جميع أنحاء غزة.
لم ينحصر مفعول التخبط الاستراتيجي الإسرائيلي على الجانب الشعبي وحسب؛ بل تعداه إلى أعتى الحلفاء الرسميين للاحتلال الإسرائيلي. إذ كانت تل أبيب في أعقاب السابع من أكتوبر محجاً لعدد من الرؤساء الغربيين، على رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي تماهى مع الرواية الإسرائيلية ودعا إلى تشكيل تحالف دولي ضد حماس. ولكن اليوم نرى كيف تغيرت الرواية الرسمية الفرنسية بشكل جذري، ويعود هذا التغيير والدعوات المتلاحقة لإقرار هدنة مستدامة في القطاع إلى فقدان الهدف الواضح من هذه العمليات من قبل الاحتلال؛ حيث لعبت حماس اللعبة بشكل جيد للغاية.
حماس تعلن دوماً رغبتها في التوصل إلى صفقة تبادل للأسرى ولكن إسرائيل والتي ادعت يوماً بأن عمليتها البرية تأتي في سياق تحرير الأسرى، تضع عراقيل أمام التوصل لمثل هذه الصفقة. كما تراقب الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا، الاستهداف الإسرائيلي العشوائي للقطاع؛ مما يعني أن إسرائيل غير معنية أبداً بسلامة الأسرى، وأن الهدف من وراء هذه الحملة هو تدمير القطاع بشكل كامل، والسيطرة عليه.
إخفاقات عسكرية متلاحقة
بعيداً عن الاختراقات العسكرية والاستخباراتية واللوجستية التي حققتها المقاومة الفلسطينية في حربها ضد إسرائيل بعد السابع من أكتوبر يبدو أنّ إسرائيل تتعرض لإخفاقات عسكرية متلاحقة. لطالما اعتبرت إسرائيل أن التهديد الحقيقي لها يأتي من جبهتها الشمالية من حزب الله، وأن التهديد بالتوغل في الأراضي المحتلة من الممكن أن يأتي من الشمال فقط، لقد كشفت عملية طوفان الأقصى أن فصائل المقاومة قادرة على إعادة الترميم والتهديد الحقيقي لإسرائيل. وقد ظهر هذا التهديد الجدي والحقيقي من خلال اقتحام مستوطنات الغلاف في غزة.
من ناحية أخرى، فإنّ قرار التدخل البري في غزة بهذه الآلية الضعيفة أظهر فقدان العقل الواعي لدى إسرائيل. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أثبتت جميع الحروب الكلاسيكية فشلها في تحقيق الأهداف المرجوة منها. إن إدخال الجيوش الكلاسيكية بالعدة والعتاد إلى حروب الشوارع قد يحقق الدمار الكامل لهذه المناطق، وقد يدمر البنى التحتية لمنطقة معينة، إلا أنه يساهم في خلق مجموعات مقاومة موازية، وخلق بيئة أكثر تأييداً لفصائل المقاومة، كما يوفر الأرضية المناسبة لإعادة صياغة تعاريف جديدة للاحتلال، وتهيئة الظروف المناسبة للعودة إلى المربع الأول لمقاومة المحتل.
وأبرز الأدلة على فقدان الحروب الكلاسيكية لدورها القديم هي المعارك التي خاضتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وخصوصاً إذا ما راجعنا تاريخ معركة الفلوجة العراقية بشكل مفصل. فبعد الفشل في اقتحام المدينة العراقية للمرة الأولى (First Battle of Fallujah) وتكبد خسائر بشرية قدرّت بنحو 480 قتيلاً، قررت الولايات المتحدة حشد قوة أكبر لاحتلال المدينة في معركة سمتها (عملية الفجر)، وقد استخدمت جميع الأسلحة المحرمة دولياً لإخضاع المدينة لسيطرتها، وهذا ما حدث بالفعل. إلا أن هذه العمليات المتوحشة والمباشرة ساهمت في تزايد عدد الهجمات العراقية على القوات الأمريكية في العراق، وفي نهاية المطاف، إخراج الجزء الأكبر من القوات الأمريكية من العراق إلى الأبد.
ختاماً، على الرغم من التسلسل الهرمي الإداري والبيروقراطي لإسرائيل، إلا أن عملية المقاومة في السابع من أكتوبر أدخلت المؤسسات الحكومية للاحتلال الإسرائيلي في دوامة فراغ العقلانية والاستراتيجية، وتظهر هذه الأزمات على جميع المستويات الحكومية، سواء السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو الإدارية، ويبدو أن فقدان القرار الاستراتيجي الإسرائيلي لن يُحل في القريب العاجل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.