في سنة 1998 أشرف المنتج والمخرج المصري من أصل فلسطيني أحمد العريان على طرح أوبريت "الحلم العربي"، الذي جمع نخبة من الفنانين العرب وبلغ ذروة نجاحه سنة 2000، مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية؛ حيث ظل الكل ينشد حلماً عربياً يكنس غبار الذل والمهانة؛ وبعد مضي 10 سنوات بالتمام والكمال عاد العريان ليصرخ ويجمع مغنيين وممثلين من المحيط إلى الخليج ليطلقوا أغنية "الضمير العربي" في سنة 2008، والتي طرحت مع فيديو مؤلم ومشاهد قاسية توثق لكل الويلات التي انهمرت على هذه الأمة.
في تلك الحقبة كانت ظاهرة "الأوبريتات" منتشرة بكثرة ولم تسلم من السخرية اللاذعة؛ لكنها على الأقل وحّدت كل الأصوات العربية واحتضنتها أغلب الفضائيات، كانت تُبث ليل نهار، ويرددها الصغير قبل الكبير، بل إن تلك الأشرطة الغنائية كانت تحقق نسب مبيعات محترمة آنذاك.
وقبل أعمال أحمد العريان المميزة كانت هناك أيضاً أغانٍ ما زال صداها حاضراً حتى اليوم مثل "وين الملايين" للثلاثي أمل عرفة وجوليا بطرس وسوسن الحمامي، والأخيرة كان لها سجل لا يُستهان به في هذا المضمار، رغم أنها اعتزلت واختفت في سن مبكرة.
إجمالاً، كانت تلك الفترة "ذهبية" فيما يخص التفاعل الغنائي العربي مع القضية الفلسطينية، وكان التنافس على أشده لطرح أعمال لشحذ الهمم، وأيضاً لرثاء واقع عربي مؤلم، ورغم ذلك ظل البعض دائم الاستهزاء بهذه المبادرات الفنية، محملاً إياها فوق طاقتها رغم أنها كانت على الأقل تضع الفنان العربي في تماس مباشر مع قضايا أمته.
حينها لم يكن أحد من الساخرين يتخيل أننا سنصل لأيام قاحلة صارت خطوة إنتاج مثل تلك الأعمال الفنية بمثابة "انتحار فني" لأصحابها، بل صارت المحطات العربية تخشى وتخاف من النبش في أرشيفها لاستحضار أعمال فنية مثل "وين الملايين" و "الضمير العربي" و"الحلم العربي" و"يا حمام القدس" وغيرها من الأغاني التي توارت عن الأنظار، ربما بفعل فاعل.
فاليوم، وغزة تباد وتتسارع الدول الكبرى لإبادتها، صار الفنان العربي يرتعد قبل أن ينشر صورة أو تعليقاً على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، بل يمكن أن "يستأذن" كي لا تضيع عليه فرصة المشاركة في "موسم الرياض"، وبالتالي يخسر فرصاً كبيرة أمامه؛ ومن هذا المنطلق لا بد أن نوجه التحية للجيل الجديد الذي ضرب بعرض الحائط المنطق الأعوج الذي بات يحكم عالم الغناء العربي اليوم، بعد أن صار أغلبية من يطلقون عليهم "النجوم" أشبه "برهائن" في أيدي بعض الذين يُحكمون سطوتهم على الساحة الفنية.
هذا الجيل الجديد القادم من عالم "الراب" تحديداً، وأخص بالذكر الفنانين الـ25 المشاركين في أوبريت "راجعين" الذين طرحوا عملاً مهماً ومميزاً بخطوة جيدة تتجسّد في تخصيص كل أرباحه لأهلنا في غزة العزة؛ اللافت في ذلك العمل الفني أنه حمل بصمة شاب مبدع، نجح في المزج بين موسيقى الراب والهيب هوب، بل أوصل رسالته بلهجته وبطريقته ضمن خطاب واضح وصريح دون تجميل؛ وكان ذلك أهم ما يميز تلك الأغنية، أنها عبّرت بشكل حر عن قضيتنا، ونبع ذلك من كون أن غالبية المشاركين في صناعتها قادمون من مساحة فنية تمتاز بوجود هامش من الحرية في مناخ ملبد بالاستبداد والقمع. ولطالما استغربت غياب هؤلاء الفنانين عن تبني قضايا هذه الأمة، وعدم استثمار موهبتهم في الطريق الأمثل، بدلاً من التطرق لمواضيع غير جادة ولا تفيد المجتمع، وها هم اليوم يصنعون من أجل قضية مجتمعهم ما يعجز عنه البعض خوفاً. وحقيقة صرت أسعد حين أرى نسبة المشاهدات التي حققتها الأغنية في ظرف وجيز رغم التضييق الممنهج الذي تعرضت له من اليوتيوب.
الخلاصة أن "راجعين" جعلت الجميع يدرك أننا أمام جيل عربي جديد، يقول كلمته ويمضي غير مكترث لكل تلك الحسابات الضيقة التي أضحت تحكم الوسط الفني اليوم، وحولت أهله إلى أدوات ودمى في يد السلطة والمال؛ هؤلاء الشباب وهذا الجيل هم الأمل في كسر الحواجز والقيود وتحريك المياه الراكدة في مجتمعاتنا؛ بينما يذهب المكبلون ممن يصنفون اليوم "بنجوم الصف الأول" مع الريح، بعد أن تهاوت أقنعتهم أمام "فلسطين"، الاختبار الحقيقي لكل ما يذخر به الإنسان من أخلاق ومبادئ ونبل وانتماء لأرضه وأهله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.