بعد مرور شهر على الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، أثار الاستخدام غير المتكافئ للقوة من جانب إسرائيل، والمجازر التي ارتكبتها، ردود فعل من المجتمع الدولي بأكمله تقريباً. وأثارت وحشية إسرائيل احتجاجات ضخمة في الأسابيع التالية، حتى بين من لم يأتوا بردة فعل في الأيام الأولى للهجمات. فالضربات الإسرائيلية لأهداف مدنية، مثل المنازل والمستشفيات، كشفت للعالم أن المزاعم بأن هذا العمل الوحشي من باب الدفاع عن النفس محض فبركة. وفي هذه المرحلة، من الطبيعي أن تتجه أنظار الفلسطينيين ومن يعارضون هذه الفظائع إلى المؤسسات الدولية. وادعاء النظام الدولي، الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، بأنه يحافظ على السلام العالمي، اختُبر غير مرة، وفي كل مرة يفشل للأسف. فنص- أو ادعاء- المادة الأولى من الجزء الأول من ميثاق الأمم المتحدة، بعنوان "الأهداف والمبادئ": "الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، ولهذه الغاية: اتخاذ تدابير جماعية فعالة لمنع وإزالة الأخطار التي تهدد السلام، وقمع أعمال العدوان أو غيرها من أوجه الإخلال بالسلام، وحل أي نزاع أو موقف دولي من شأنه أن يؤدي إلى إخلال بالسلام بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدالة والقانون الدولي"، لم يعد يبدو واقعياً كثيراً. فالنظام الدولي اليوم لا يختلف في جوهره عن النظام الذي كان قائماً منذ القرن التاسع عشر.
وجميعنا ندرك، بطريقة أو بأخرى، كيف أن الغرب قَصَر توازن القوى وبيئة السلام والاستقرار على نفسه، وكيف أنه قسّم أفريقيا بوحشية في مؤتمر برلين عام 1884 في نفس الوقت بالضبط. واليوم أصبح نظام الأمم المتحدة بالمثل نظاماً يحمي مصالح الغرب (وأمنه عند الضرورة)، وهو عاجز تماماً في بقية العالم. ومع ذلك، حين ننظر إلى ما يحدث من منظور قيم ومؤسسات الغرب باعتباره "النظام المهيمن"، فالمجازر التي ترتكبها إسرائيل اليوم تنذر بشأن خطير. والآن أود أن أتحدث عن مفهومين في القانون الدولي، أحد القيم التي تقوم عليها الحضارة الغربية، ونفاق الحضارة الغربية التي تبدو حساسة جداً تجاه هذه القضايا. وهذان المفهومان هما جرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية.
وجرائم الحرب، بحسب المحكمة الجنائية الدولية، تشمل القتل العمد والتعذيب والإصابة والتهجير والهجمات المتعمدة على المدنيين والهجمات على أهداف مدنية غير مخصصة للأغراض العسكرية. والمحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها محاكمة إلا الدول الأطراف في معاهدتها. لكن الملاحقة القضائية تكون للأفراد، وليس الدول. ومن الضروري أن يكون الفرد أيضاً مواطناً لدولة طرف في معاهدة المحكمة الجنائية الدولية. وتشمل جرائم الحرب أيضاً استخدام الأسلحة الكيميائية والنووية والبيولوجية والهجمات على الأبنية المحمية، مثل المستشفيات والمدارس، بغض النظر عن السبب.
ومن ناحية أخرى، فالإبادة الجماعية شكل منهجي من أشكال الجريمة المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة دينية أو إثنية أو قومية. وهنا، كي يعتبر الهجوم جريمة إبادة جماعية، لا بد من اجتماع عدد من العناصر. وكما ذكرتُ أعلاه، لا بد من وجود جماعة، ولا بد من وجود عمل عدواني ضد هذه الجماعة، وأخيراً، لا بد أن يكون الهدف من هذه الهجمات إبادة هذه الجماعة كلياً أو جزئياً. ومرة أخرى، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية ملاحقة جريمة الإبادة الجماعية "بمحاكمة أفراد" يمثلون الدولة (وإن كان يُسمح للمحاكم المحلية بفعل الشيء نفسه)، وإن ثبتت جريمة الإبادة الجماعية، يُعاقب الأفراد نيابة عن الدولة.
ورغم أن إسرائيل لديها سجلاً فعلياً من جرائم الحرب، لم يُعترف رسمياً بعد بارتكابها جرائم حرب. وذلك لأن إسرائيل، كما ذكرتُ أعلاه، ليست طرفاً في معاهدة المحكمة الجنائية الدولية. وبالنظر إلى الماضي، فالعملية التي بدأت في 16 يناير/كانون الثاني عام 2015 بقرار المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق أولي في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل، أوقفتها إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة. وعام 2021، أثناء تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل، أعلنت إسرائيل بوضوح أنها ليست طرفاً في معاهدة المحكمة الجنائية الدولية وأنها لن تتعاون معها بأي شكل من الأشكال. على أن رد فعل إسرائيل المثير الآخر على هذا التحقيق كان أن المحكمة الجنائية الدولية لا ينبغي لها أن تنتهك سيادة دولة إسرائيل. وبعبارة أخرى، فإسرائيل، باعتبارها التحقيق الذي تجريه منظمة دولية علناً "انتهاكاً للسيادة"، تكون قد ذكّرت الجميع مرة أخرى بأنها "دولة أمنية". إلا أن الولايات المتحدة، حاملة راية النظام الليبرالي العالمي، وقفت إلى جانب إسرائيل في هذه العملية وانتقدت قرار المحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيق، وهذه الدولة (!) التي تحاول نشر هذه القيم في جميع أنحاء العالم بالدفاع عن عالمية الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تقبل أن تخضع إسرائيل لتحقيق تجريه مؤسسة دولية.
لكن هل تشكل حقيقة أنَّ إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية عقبة واضحة أمام محاكمتها بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية؟ يمكن استنباط الإجابة على هذا السؤال من التاريخ. إذ تمثل حرب البوسنة، التي اندلعت بين عامي 1992 و1995، حالة مماثلة. فقد أثارت الحرب التي تسببت في مجازر خطيرة وجرائم حرب ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية ردود فعل من المجتمع الدولي، وأنشأت الأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في عام 1993، قبل تأسيس المحكمة الجنائية الدولية الحالية. وعُقِدَت المحاكمات في تلك المحكمة بغض النظر عمّا إذا كانت الدول أطرافاً في النظام الأساسي لها أم لا، وفي عام 2007، أقرّت بارتكاب جريمة إبادة جماعية في سريبرينيتسا. واليوم صار السبيل الوحيد لمحاكمة إسرائيل على جرائم الحرب التي ترتكبها بموجب القانون الدولي يتلخص في إنشاء الأمم المتحدة لمحكمة خاصة بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (أو المحكمة الجنائية الدولية، التي تتمتع بسلطات خاصة) ينص على التحقيق والمحاكمة. وأول ما يتبادر إلى الذهن، بالطبع، هو شرط أن يتمكن مجلس الأمن الدولي من اتخاذ هذا القرار دون استخدام أي من الدول أعضائه حق النقض ضده. ويبدو أنَّ وجود الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، التي وقفت دائماً إلى جانب إسرائيل في جميع الظروف، قد عرقل هذا المسار في حد ذاته.
وفي مثل هذا الوضع، أي إسرائيل، التي لا يمكن التحقيق فيها ومحاكمتها على جرائم الحرب لأنها ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية وليس هناك إمكانية لإنشاء محكمة خاصة بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي لمحاكمتها في هذه المسائل، فهل هناك أية إمكانية لمحاسبتها؟ وهل هناك طريقة أخرى بموجب القانون الدولي لوقف مجازرها؟ وكما في الفقرة أعلاه، يمكن العثور على إجابة هذا السؤال في التاريخ. خلال الحرب الكورية في عام 1950، تحققت نية إرسال قوة حفظ سلام دولية إلى كوريا -بعد فشل تنفيذ ذلك بسبب استمرار الصين في استخدام حق النقض في مجلس الأمن الدولي، من خلال "طريقة" جديدة أُنشِئَت تحت قيادة الولايات المتحدة، بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً تحت عنوان "الاتحاد من أجل السلام". بمعنى آخر، على الرغم من حق النقض الذي استخدمته دولة عضو في مجلس الأمن، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار الذي كان ينبغي اتخاذه بموجب قرار من مجلس الأمن، برغم أنَّ الجمعية العامة لا يمكنها عادةً اتخاذ قرارات ملزمة. ويوضح هذا الوضع كيف يمكن أن يكون القانون الدولي "مرناً"، وكيف يمكن اتخاذ القرارات العسكرية على الرغم من حق النقض الذي تتمتع به دولة عضو دائمة في مجلس الأمن الدولي.
ومع ذلك، فإنَّ إجراء محاكمة دولية أو تنفيذ تدخل عسكري أو غير عسكري ضد جريمة الحرب -والإبادة الجماعية في رأيي- في فلسطين يبدو غير مرجح في ظل النظام الدولي القائم. وذلك لأنَّ الأمثلة الاستثنائية التي ذكرتها أعلاه لا يمكن أن تتحقق إلا عندما تتوافق مع مصالح الدول المُؤسِسة لهذا النظام. وكان من الممكن أن يمنع التدخل الدولي في بداية حرب البوسنة وقوع مذبحة سريبرينيتسا، لكنه لم يكن ممكناً إلا بعد تعرض الرأي العام الدولي لضغوط و"فقدان الحدث أهميته" بالنسبة للغرب. وبالمثل، في حالة كوريا، خُطِّط التدخل العسكري في كوريا تحت قيادة الولايات المتحدة لأنه كان رمزاً لانتصار الأيديولوجية الغربية في ظل الحرب الباردة. واليوم، يبدو مثل هذا القرار الاستثنائي لصالح فلسطين في مواجهة إسرائيل غير واقعي. والبديل الوحيد المتبقي في هذه المرحلة هو أنه كما ظهرت "حركة عدم الانحياز" عام 1961 واستطاعت الإسهام بدور "القطب الثالث" في الحرب الباردة، ينبغي للعالم الإسلامي أن يدرك أيضاً أنه قطب في عالم متعدد الأقطاب، وقادر على اتخاذ موقف -أو إجراء – من خلال منصات دولية تتشكل من الداخل وتستند إلى قيمه الخاصة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.