طفلٌ يودّع كل عائلته، أمٌ تدفن أطفالها، أبٌ يصرخ بحرقة "يابا وين رحت".. أمهات يبحثن عن فلذات أكبادهن بين أروقة المستشفيات، فربما كان جريحاً وتم إسعافه، بينما تنفجع الأمهات باستشهاد أطفالهن الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم فلسطينيون، ويعيشون في غزة. هكذا هو ملخص الصور التي نشاهدها أمام أعيننا في كل يوم، وبشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي.
ليس غريباً على إسرائيل استهداف المدنيين في كل حربٍ تشنّها ضد الفلسطينيين، ولكن الذي يمكن ملاحظته بشكل مثير للريبة أن أغلب ضحايا هذا الهجوم الإسرائيلي هذه المرة هم الأطفال والنساء.
وكأن إسرائيل تستهدف جيلاً من الأطفال لا تريد له الحياة. خاصة أنها كانت تراهن في كل مرة على أن الأطفال سينسون فلسطين، ولكنها اكتشفت أنها أخطأت في الرهان.
حيث يتفاجأ الاحتلال عند كل حرب يشنها على الفلسطينيين، أن روح المقاومة تكبر أكثر في كل جيل فلسطيني ناشئ. والمعركة اليوم ليست معركة عابرة، هذه المرة ربحنا جيلاً كاملاً، كنا نخاف عليه أن ينسى.
في غزة احتمالات الهلاك أضعاف احتمالات النجاة، فحتى من نجا من الموت مرة، معرّض للموت في اللحظة التالية، بسبب نفاد الوقود من المستشفيات، في الوقت الذي تبرر فيه دول العالم العظمى والإعلام الغربي حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وكأن الفلسطيني المدني النائم في بيته هو الذي تأخذ إسرائيل حقها منه.
الكثير من العائلات لم يعد لها سجل مدني في النفوس، فقد محا الاحتلال الإسرائيلي من على وجه الأرض عائلات بأكملها، وهنا، وبعد كل هذه المجازر بحق الأبرياء، فلا بد للأبواق الغربية أن تدرك أن قصف الأطفال والأبرياء ليس دفاعاً عن النفس.
أثناء متابعتي للأحداث، استوقفتني جملة في لقاء صحفي يتداول فيه محلل سياسي في إسرائيل يقول "فلتبكي ألف أم فلسطينية ولا تبكي أي أم إسرائيلية"، أي ليمت الأطفال الفلسطينيون وتتحسر عليهم أمهاتهم، هذا الشعار والزريعة التي يتخذها الاحتلال لتبرير وحشيته واستمراره في سفك الدماء، وهذا كله باسم الدفاع عن النفس، الذي يغرد به الاحتلال وحلفاؤه.
مع كل إحصائية جديدة لضحايا الشعب الفلسطيني، أشعر وكأن الإنسانية قد نُزعت عن هذا العالم، ومع كل ليلة أعتقد فيها أنها الليلة الأصعب على الفلسطينيين المدنيين في غزة، وإذ به الاحتلال يهبط بعنف جديد على رؤوس الأطفال وعائلاتهم بدون سابق إنذار.
إن كل ما نشعر به الآن من خلف شاشات الموبايل والتلفزيون هو العجز، عجزنا عن مساعدة الشعب الفلسطيني، عجزنا المتمثل بأننا في أمان، وهم في كل لحظة تمر عليهم يحيط بهم خطر مخيف، لا يمكننا نحن من نعيش بسلام أن نتخيله حتى.
أما بالنسبة لقادة العالم، فأقصى ما يمكن فعله هو مشاهدة المجازر وتبريرها في بعض الأحيان، أو إدانتها في أحيان أخرى من دون إلقاء اللوم على الاحتلال وقواته المدعومة من كل القوى الغربية دعماً لم يسبق له مثيل.. فما أسهل الكلام والاكتفاء بالتنديد فقط.
لا أحد يفعل شيئاً لإنقاذ ما تبقى من غزة التي تهدم ما يقارب من نصف بيوتها إلى الآن، أي ما يقارب نصف سكانها أصبحوا نازحين في المدارس والمستشفيات التي تُقصف على رؤوسهم أيضاَ.
أما المنظمات العالمية، فلم تكن أفضل حالاً من حكام العالم الغربي، فتلك المؤسسات التي تعنى بشؤون الطفل ومنها منظمة إنقاذ الأطفال تتعامل مع العدوان والاحتلال وكأنها حرب بين طرفين متكافئين، تدين قتل الأطفال بشكل عام من الطرفين، نعم جميعنا ندين قتل الأطفال دائماً، ودماء الأطفال التي تراق من فلسطين، فقد قتل الاحتلال إلى اليوم أكثر من 4630 طفلاً فلسطينياً.
ولا يحتاج الأمر بحثاً استقصائياً، إذ يكفي لهذه المنظمات التي تدعي مراعتها لحقوق الإنسان أن تتصفح الحياة في إسرائيل وغزة على وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة الأنشطة التي تحدث هناك، ومن ثم المقارنة بين حياة الطفل الفلسطيني والطفل الإسرائيلي. في إسرائيل، سترى أطفالاً يلعبون في الحدائق، وأمهات يمشين مع أطفالهن الرضع في عربات الأطفال وعائلات تلعب على الشاطئ، بينما إذا نظرت إلى الخريطة في غزة فسترى جثثاً تحت الأنقاض، وطفلة تصرخ بحثاً عن أمها، أم تحزن على وفاة رضيعها، أب يدفن أطفاله ودموع القهر تملأ عينيه، والقائمة تطول.
لقد أظهر "طوفان الأقصى" الوجه الحقيقي للعالم الحر الذي يدعي الإنسانية، فبعد كل هذا القتل للأبرياء، يُرجى من الغرب التوقف عن استخدام مصطلحات مثل حقوق الإنسان والطفل، في الوقت الذي لا تستطيع هذه المنظمات وشعاراتها القيام بأي شيء لحماية الأطفال حقاً. فأطفال غزة لا يحتاجون إلى الشعارات والإدانات فقط، بل يحتاجون إلى الحماية وإلى حقوقهم الإنسانية الأساسية، وهو ما تتغاضى عن توفيره تلك المنظمات.
فلا يمكن لهذه المنظمات المساواة بين الضحية والجلاد، حيث إن أغلب ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة بعد مرور أكثر من شهر، هم من الأطفال على مرأى العالم وبدعم غربي غير مسبوق. لا يمكن لهذه المنظمات أن تعمي عيونها لهذا الحد وتتماشى مع الأجندة السياسية للبلدان التي تدعمها. منظمة حماية الأطفال لم تورد في منشور لها على يد من تم قتل هؤلاء الأطفال في غزة، ولم تدن الاحتلال الإسرائيلي، وكأنها تنقل فقط جزءاً من القصة دون روايتها بشكل كامل.
في غزة لا صوت يعلو فوق صوت مذبحة الأطفال، فبحسب منظمة الصحة العالمية، يموت طفل في غزة كل 10 دقائق! كل هذه الدماء ولم يعلُ صوت الإنسانية، ولم يحن وقت لكلمة الحق أن تخرج من أفواه الإعلام الغربي، الذي يعمل على غسل أدمغة شعوبه ونشر الأخبار الكاذبة والملفقة التي تريدها إسرائيل، وكأنهم أبواق لها غير مكترث لمصداقيته ومهنيته التي طالما تشدق بها.
لقد أصبح جلياً تستر العالم الغربي على المذابح التي تحدث في غزة. فالغرب يتحدث عن حقوق الإنسان ولكنه يناقض شعاراته الإنسانية، وإدراك ذلك لا يحتاج جهداً أيضاَ، إذ يرى الجميع التناقض وازدواجية المعايير الفجة لدى الحكومات الغربية في التعامل مع حالة أوكرانيا وفلسطين. فبينما حضرت الملايين والعتاد لدعم أوكرانيا بحجة دفاعها ضد الاحتلال الروسي، يقومون بالعكس في فلسطين، حيث يدعمون الاحتلال الإسرائيلي بك أشكال الدعم بكل أشكال الدعم المادي والمعنوي لمواصلة استهدافه المدنيين خصوصاً الأطفال.
غزة اليوم حيث لا عذوبة، لا وداعة، لا صوت لضحكات الأطفال، فقد استشهد أطفال لم تتجاوز أعمارهم أيام. هؤلاء الأطفال ليسوا فقط مجرد أرقام تدخل في الاحصائيات، فلكل منهم اسم وحكاية وأحلام قد دُفنت معهم. ولم يتبقّ منهم سوى أنهم أصبحوا ذكرى لمحبيهم.
إن الاحتلال الإسرائيلي يرتكب إبادة جماعية بحق الأبرياء والمدنيين في غزة. وكل ما يفعله العالم هو المشاهدة من وراء الشاشات، بينما يغمرنا شعور العجز في بيوتنا أمام التلفاز.
في هذا الطوفان الذي لم ينتهِ لم يعد شيء كما كان، فقد نجا من مات ومات من نجا. حتى نحن الذين تفصلنا الأميال عنهم لم نعد كما كنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.