يقول الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في قصيدته (أعشق الوداعة): "على عتبات العزلة، أفتح عيني وأملأهما بعذوبة السلام. أعشقُ الوداعة أكثر من أي شيء من أشياء العالم. إنني أجد في سكون الأشياء، غناءً هائلاً، وأخرس، فأُرجع عيني صوب السماء، لأجد في ارتعاشات الغيوم، وفي الطائر العابر والريح: العذوبة الشديدة للوداعة".
هنا في غزة لم يعد للوداعة مكان، حتى الأطفال أصبح ذلك شعوراً مكلفاً لديهم لا يجد مساحة له في داخلهم، إذ يجتاح الخوف والرعب كل ركن فيهم، كما تجتاح الدبابات الميركافا أراضي آبائهم مدمرة كل ما يمكن أن ينتموا إليه.
هنا غزة حيث لا عذوبة، لا وداعة، لا صوت يعلو فوق صوت المذبحة. يومياً أحاول عشرات المرات الاتصال لأسمع صوت أمي، وتطمئني عليها وعلى إخوتي أنهم ما زالوا على قيد الحياة، وحين تتعاطف مع إشارات الهاتف، تبادرني هي بالسؤال "كيف حالك يمّا؟"، أطمئن أنها ما زالت بخير وأنها ما زالت تلك المرأة التي حمتنا في قلبها رغم حصار العالم علينا.
أسألها عن حال إخوتي سريعاً، فلا أعلم إلا متى ستسعفنى شبكة الاتصالات، وإن سعفتني هل تتحمل بطارية تليفون أمي، رغم ذلك تطمئنني سريعاً، وتسألني كيف العالم؟ هل ما زال يشاهدنا؟!
أتجاهل السؤال، فهي لا تسأل لأجيب. وأسألها أنا لا أسمع صوت بكاء أطفال حولكم، تقول لي لقد تخطوا البكاء، صامتين يا بني.
لقد احتل العدوان عاطفتهم وأجهز على ودعاتهم واستبدالها بوداعات كثيرة، فحتى كتابة هذه السطور ودع أكثر من 4630 آلاف طفل هذا العالم، ومن بقي على قيد الحياة، يودع أمه، أو أباه أو أخاه، أو صديقه، أو منزله، أو لعبته الصغيرة، وغيرها من أمور عند توديعها يودع الإنسان مهما كان عمره جزءاً منه إلى الأبد. وداعات كثيرة في غزة، وداعات لا تأخذ وقتها، ولا حقها من الدموع وتبادل القبل والعناق، فالحرب تفني كل شيء حقيقة ومجازاً.
يقول غسان كنفاني في روايته عائد إلى حيفا: "سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟ بالنسبة لبدر اللبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة أية معلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط".
ربما يتساءل الكبار عن معنى الوطن، لكن الأطفال لا يسألون فهم يعرفونه بيقين شديد، الوطن هو كل شيء، الوطن هو تلك المساحة حول شجر الزيتون التي أعطتهم حرية للعب، للبكاء، لشجار مع بعضهم البعض، كل مساحة وكل شيء أعطى فرصة لهم للعب والبكاء، الوطن لهم من عكا إلى أحضان جدتهم في رفح.
إن المشهد في غزة اليوم يحمل وداعات وآلاماً سرمدية، فقد تحوَّلت منازل العائلات الدافئة إلى ركام محطم لا معالم له. إنَّ الدمار هنا لم يكن مجرد خسارة مادية، بل خسارة لحيوات كثيرة. تتحوَّل أحياء كاملة كانت تعج بالحياة والأمل إلى مكان من الدمار والألم والوداعات السريعة.
تلك البيوت الجميلة التي كانت تعانق سماء غزة تحوَّلت الآن إلى ركام. الشوارع الممهدة أصبحت مليئة بالأنقاض والدُّخَان، وبات الوصول إلى المناطق المتضررة أمراً صعباً تماماً.
يدرك الصغار قبل الكبار في غزة أن جزءاً منهم قد ذهب للزوال، وأن احتمالات الهلاك أضعاف احتمالات النجاة، لكن ما زالت تفتنهم فكرة العودة لوطن به بيوت دافئة بُنيت في مخيلتهم مؤمنين بعودتهم إليها عندما يكبرون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.