لعل مقولة منظّر الحرب الشهير كارل فون كلاوزفيتز "الحرب هي مجرد استمرار للسياسة بطرق أخرى" هي ما تفسر فشل كل المبادرات السياسية التي جرت وتجري منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، إثر هجوم السابع من أكتوبر 2023، في الوصول حتى إلى بيان مشترك ذي معنى، فضلاً عن التوصل إلى رؤية سياسية. أو لعل هذه المقولة تفسر بالأحرى نجاح التواصلات الدبلوماسية في عدم الوصول إلى أي مخرج سياسي ذي قيمة.
فمع وقع الهجوم وهول المصاب الذي نال إسرائيل، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، صعدت الحكومة الإسرائيلية إلى الشجرة معلنةً الحرب على حماس والقطاع المحاصر، مهددةً بأنه لا عودة حتى اجتثاث حماس والقضاء عليها، وبهذا رفعت الأقلام واستلت "السيوف الحديدية"، وفق التسمية الإسرائيلية لعملياتها في قطاع غزة.
الصعود على الشجرة استمرّ مع رفض كابينة الحرب الإسرائيلية للهدن الإنسانية، أو حتى قبول الإفراج عن بعض الأسرى المدنيين لدى حماس بالمجان، ولأسباب إنسانية، وكذلك مع إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤخراً أن إسرائيل لا تنوي الانسحاب من القطاع ولا تسليمه للسلطة الفلسطينية لاحقاً.
الصعود الإسرائيلي للشجرة ترافق مع اصطفاف أمريكي غير مسبوق في المجهود الحربي الإسرائيلي، من خلال شيطنة الفلسطينيين ونزع الصفة الإنسانية عن القطاع، وإعطاء الضوء الأخضر للعدوان الإسرائيلي، ورفد جيش الاحتلال الإسرائيلي بما يحتاجه ولا يحتاجه من الذخائر والأسلحة.
الدعم الأمريكي وصل ذروته مع مجيء بايدن لإسرائيل واجتماعه مع مجلس وزراء الحرب، بل وحتى ابتلاعه لكذبة إسرائيل بأنها لم تقصف المشفى المعمداني في غزة. هذا الدعم اللامحدود للحرب من قِبل واشنطن أثبته تأكيد الناطق باسم البيت الأبيض "كيربي" منذ أيام، بأن الإدارة الأمريكية لا تضع أي خطوط للعملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع.
وفي ضوء قرع طبول الحرب ورفع أقلام السياسة لم تنجح زيارتا وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في التوصل إلى أي نتيجة سياسية، بل يمكن القول إن الزيارتين لم تهدفا إلا إلى تكميم السياسة وإعطاء الكلمة للميدان، بل وجز جميع الأطراف في الحرب إن أمكن. فالجولة الأولى التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي بلينكن بعد أيام من اندلاع حرب السابع من أكتوبر كانت بمثابة تعميم أمريكي لعواصم المنطقة، للرخصة المطلقة التي منحتها واشنطن لتل أبيب، مع محاولة الضغط على الدول العربية، وعلى رأسها مصر، للقبول بتهجير الفلسطينيين تجاه شمال سيناء. أما الجولة الثانية التي قام بها بلينكن فلم تأتِ بأي جديد، سوى التأكيد الأمريكي على ضرورة عدم وقف إطلاق النار وإعطاء المزيد من الوقت لآلة القتل والدمار الإسرائيلية.
وبالتوازي مع غياب أو تغييب الرؤية السياسية من قِبل الطرف الأمريكي لم تنجح قمتا القاهرة، في الحادي والعشرين من أكتوبر، أو قمة الرياض في الحادي عشر من نوفمبر، في الخروج بأي مخرج سياسي. فقمة القاهرة التي شاركت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بتمثيل دبلوماسي متدنٍّ عجزت عن الخروج ببيان مشترك، في ظل اتساق الدول الأوروبية المشاركة مع الرؤية الإسرائيلية-الأمريكية بعدم وقف إطلاق النار وإعطاء الضوء الأخضر لاستمرار الحرب. أما قمة الرياض "الاستثنائية" و"العاجلة" لكل من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي فقد مثلت تجسيداً لمقولة "تمخض الجمل فولد فأراً"؛ إذ خرجت القمة بقرار "إدانة" العدوان الإسرائيلي، ونداءات ومناشدات، في تعبير واضح عن انعدام الفاعلية وانحدار الرؤية السياسية.
التماهي الأمريكي في الجهد الحربي الإسرائيلي، وتغييب أي مبادرة سياسية، يترافق أيضاً مع غياب أي دور فاعل للصين أو روسيا، واللتين كان يراهن البعض على القتاطهما للحظة السياسية، وتعزيز دورهما في إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
وبعد مضي أكثر من شهر على بدء الحرب على غزة، وإعطاء الكلمة للميدان، لا يبدو أن هناك أي رؤية سياسية تتبلور فيما يتعلق بالقطاع، أو كيفية التعامل مع حماس على فرض الوصول إلى "اليوم التالي" لهذه المعركة، مع اقتناع الإدارة الإسرائيلية المتطرفة بأنها قادرة على الاستمرار في القتل، بما في ذلك استهداف موظفي الأمم المتحدة في غزة، وأملها الموهوم بأنها سوف تكون قادرة على تنفيذ "التطهير العرقي ضد الفلسطينيين"، وفق ما يرشح من تصريحات قادتها.
لكن حتى كلاوزفيتز، عندما نظر للحرب وأعطاها المجال في مقولته الشهيرة، أكد أنها يجب أن تكون جزءاً من سياسة، وهو ما لا يوجد في حالة حرب إسرائيل على غزة. غياب الرؤية السياسية يحذر منه صديق إسرائيل قبل عدوها، ويذكّرون بتجارب الماضي، بأن الحل العسكري وحده لا يجدي. كما يحذرون من الصعود على الشجرة والتعلق المستمر بأعاليها والانجرار الأمريكي-الغربي وراء أمنيات رئيس الوزراء الفاسد نتنياهو، الذي لا هدف له الآن سوى إطالة الحرب ما استطاع، خوفاً من الحساب الذي ينتظره إذا خمدت نيرانها.
وكما أشرت في مقالي "طوفان الأقصى والحلول اللاسياسية"، بعد يومين من بدء الحرب، فإننا وصلنا إلى هنا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي نتيجةً لتغييب السياسة واستبدالها بحملات العلاقات العامة والتطبيع الأجوف. أما ردة الفعل الدولية على هجوم السابع من أكتوبر فهي تشير إلى أن "الفجوة بين الميدان وطاولة السياسة ستزداد، وأن اللاعبين الدوليين، وتحديداً الولايات المتحدة، سيستمرون في محاولة فرض الحلول اللاسياسية، ما سيزيد من تراكم العنف".
وبالعودة لكلاوزفيتز ومقولته، فإنه لم يشتهر فقط بتنظيره بأن الحرب هي استمرار للسياسة بمعانٍ أخرى، بل أيضاً بتأكيده أن هدف الحرب هو "إجبار العدو على تنفيذ إرادتنا"، فهل تنجح إسرائيل في كسر إرادة الشعب الفلسطيني بجرائمها وغطرسة آلتها الحربية الآن، وهي التي لم تنجح بذلك طيلة العقود الثمانية الماضية؟ لم تنجح في ذلك حتى حينما كان الشعب الفلسطيني عاجزاً عن مواجهتها إلا بالحجر في الانتفاضة الأولى، فكيف وهي تواجه رجال المقاومة الأشداء ولا تجرؤ حتى على الخروج خارج دباباتها المحصنة؟!
في غياب الرؤية السياسية تصبح الإجابة عن سؤال: "ماذا بعد؟"، والذي يشغل بال الكثيرين ويُقلق راحتهم، إجابة بلا خيارات محددة، إجابة مفتوحة لا يُجيب عنها سوى إرادة المقاومة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.