لأن الكتابة في زمن الحرب أشبه بعملية جراحية في القلب

تم النشر: 2023/11/10 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/11/10 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش
الحرب على غزة

الكتابة في زمن الحرب أشبه بعملية جراحية مؤلمة في القلب. والقصف المتواصل على قطاع غزة أعاد إلى ذاكرتي مقال "وحي القبور" لمصطفى صادق الرافعي. وقد تحولت بيوت الفلسطينيين بغزة إلى مقابر جماعية مليئة بأجسام الشهداء من الأطفال. وهي قبور جماعية عزيزة على قلوبنا. الدموع الإنسانية لمراسل "الجزيرة" وائل الدحدوح بعد استشهاد عائلته، كشفت للعالم جرائم الاحتلال الإسرائيلي. عودة وائل الدحدوح إلى ميدان الحرب بعد تشييعه جثمان عائلته ومتابعته نقل الأخبار، أظهرت لنا شخصيته الصحفية القوية والمواطن الفلسطيني الشجاع الذي بداخله ويدافع بشرف وقوة عن أرضه. يبدو أن المقاومة من سمات الفلسطينيين والشجاعة أيضاً، وهذا ما أظهرته للعالم الوسائل الإعلامية. ليس هذا هو المشهد الوحيد في قطاع غزة. فهناك مقاومة من نوع آخر، وهناك مشاهد أخرى من حرب غزة، ورجال الدفاع المدني بغزة يحاولون إخراج الشهداء من تحت الأنقاض. ومن بين تلك المشاهد الجميلة نجاح طاقم الدفاع المدني في إنقاذ عجوز من تحت الأنقاض واستقبالها بأغنية "ست الحبايب".

منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة كان قصف الاحتلال الإسرائيلي مرعباً، ولكن بعد الاجتياح البري الجزئي لغزة ستصبح الحرب مخيفة بالنسبة لجنود الاحتلال. وبايدن يضع خياراته المتعددة أمام نتنياهو كتأجيل الاجتياح البري والتفاوض مع قطر بهدف التوسط لإطلاق الأسرى لدى حماس. إدارة بايدن كانت واضحة منذ البداية في سياساتها وقراراتها حول مواصلة الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل. ومجلس النواب الأمريكي قد صوت لصالح تمرير مشروع قرار يدعم إسرائيل ويدين حركة حماس، وقد نجح هذا المشروع بأغلبية 412 صوتاً مقابل معارضة 10 أصوات أخرى. وبعد ساعات فقط من انتخاب النائب مايك جونسون رئيساً للمجلس، تم تمرير هذا المشروع، وأكد الرئيس الجديد للكونغرس الأمريكي أن الدعم لتل أبيب لا يحمل رسالة لإسرائيل فحسب إنما للعالم أجمع. كل شيء معلن عنه في هذه الحرب، ولا توجد صفقات سرية ولا مجال للدبلوماسية. 

الطائرات الرئاسية الأوروبية ما زالت تتوافد على مطار بن غوريون وفيها رؤساء الدول الأوروبية، وجميعهم أكدوا حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ولم نسمع أي عبارات لوقف إطلاق النار أو الهدنة الإنسانية، والأمر اللافت في زيارة ماكرون للقدس صفة الخطاب الحميمي بينه وبين "بيبي" نتنياهو، وتأكيد الأخير أن الحرب بين الخير والشر وبين الحضارة وأعداء الحضارة، وكانت مهمة ماكرون اقتراحه العجيب توسيع التحالف الدولي للقضاء على تنظيم الدولة وإدراج حركة حماس كمنظمة إرهابية في هذا التحالف الدولي، وبعد ذلك قرر زيارة رام الله ومقابلة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

عملية طوفان الأقصى التي وقعت في اليوم السابع من الشهر الجاري، غيّرت سياسة العالم. ومع تلك التغيرات تبدلت الأدوار وتباينت المواقف السياسية، فالدول التي كانت يوماً ما تدافع عن الديمقراطية والحقوق المدنية والسياسية وأدوات التعبير السلمية قد عادت حكوماتها فاشية ومتطرفة ولا تعترف بحقوق الإنسان، ومثال ذلك قرارات وزير العدل الفرنسي التي ألغتها المحكمة لعدم دستوريتها، وهذا ما شجع الجماهير الفرنسية بباريس على الانضمام إلى المظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني، وبالسياسة نفسها فإن ألمانيا التي كانت يوماً ما نازية ها هي تمارس الآن العنف ضد الداعمين لفلسطين. يبدو أن عاصمة الأنوار باريس تتناقض مع روح التنوير وتتجاهل تاريخ الثورة الفرنسية والقيم التنويرية التي ورثتها يوماً من الأيام لتعود عاصمةَ الظلام، ويسقط فيها مشروع التنوير الأوروبي والقيم التي تحدث عنها فولتير، وحرص مونتسكيو على استقلال السلطات.

لا جديد في سياسة هذه الحرب، ومجلس الأمن كعادته تتصارع داخله الدول الخمس، وتتباين فيه المواقف السياسية، ولا ينتهي الجدل حول إدانة إسرائيل على جرائم الإبادة بغزة والمنقذ لإسرائيل الفيتو الأمريكي، ولا مصادقة على مشروع وقف إطلاق النار الإنساني الذي طرحته روسيا والبرازيل، والفيتو الروسي والصيني ينقذ حماس من دائرة الاتهام بالإرهاب. مقر الأمم المتحدة عجيب والخطابات المطروحة داخله عجيبة أيضاً، وإسرائيل تكشف للعالم افتقارها إلى المنطق، فهي تبرر قصفها المتوحش لغزة وقتل الأطفال؛ بسبب الحجارة التي يقذفها الفلسطينيون على رؤوس جنود الاحتلال، وهذا ما يبرر جرائم الاحتلال بغزة. والدليل الذي قدمه مندوب الاحتلال الإسرائيلي لكي يقوم بإقناع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بمشروعية جرائمه اكتفى برفع الحجارة. كما قلت سابقاً، لا جديد في سياسة هذه الحرب: المجرم معروف، وجرائمه واضحة، ولا تتم محاسبته أو معاقبته.

خارج الأمم المتحدة توجد بعض المواقف التي ما تزال تؤكد صوت الضمير الإنساني وقليل من النزعة الإنسانية التي تركها الفلاسفة الأوروبيون ويمكن معرفتها مما تبقى من اليسار. فها هي وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية بيلارا، تحث الدول الأوروبية على قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وحظر الأسلحة وفرض عقوبات اقتصادية على تل أبيب، بهدف إيقاف "الإبادة الجماعية" التي ترتكبها بحق الفلسطينيين والتي ذهب ضحيتها آلاف الشهداء، كما طالبت بمثول نتنياهو أمام المحكمة الجنائية الدولية. ويمتد صوت الضمير الإنساني الذي يمثله اليسار فتتهم وزيرة خارجية كوريا الشمالية الاحتلال الإسرائيلي وإدانته بقصف المستشفى المعمداني بغزة الذي راح ضحيته 500 شهيد. هذه النزعة الإنسانية ليست لها حدود جغرافية، ولا تقل مواقف أمريكا اللاتينية عن المواقف السابقة، فالرئيس الكولومبي غوستافو بيترو شبه القصف الإسرائيلي لغزة باضطهاد النازيين لليهود في الحرب العالمية الثانية، وقام بطرد السفير الإسرائيلي وتعليق العلاقات الدبلوماسية بينهما.

لقد عادت دول الاتحاد الأوروبي لرشدها قليلاً بعدما اتحد ضدها الرأي العام الدولي. ونتيجة لذلك التحالف بقي الاتحاد متضامناً قلباً وقالباً مع إسرائيل، ولم تغير دول الاتحاد موقفها، بل زادت موقفها بأن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، ولكن وفقاً للقانون الدولي الإنساني. ذلك هو الشعار الجديد الذي يتحدث به مسؤولو الاتحاد الأوروبي في خطاباتهم السياسية التي كثيراً ما نسمع فيها قلقهم الشديد بشأن الوضع الإنساني المتدهور في قطاع غزة دون أي مبادرات إنسانية جادة تدعو إلى فتح ممرات إنسانية. بيد أنه يوجد طرف آخر يؤكد حجم التجاوزات والجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بقطاع غزة ولم تعد ضمن حق الدفاع عن النفس. والرئيس التركي أردوغان صرح بأن الحرب الإسرائيلية في غزة قد تجاوزت الدفاع عن النفس وتحولت إلى ظلم وهمجية ومذابح.

بقي عندي موقف أخير. وصديقي الذي ما زالت تسيطر عليه الأيديولوجية القومية والشعارات البعثية ربما يتعجب من هذا الموقف وليس وحده، فالقراء أيضاً ربما يشاركونه ذلك الإعجاب. على مسافة قريبة من التدمير والقصف وأشلاء الشهداء المتناثرة في كل مكان انعقدت قمة السلام. والعجيب في هذه القمة العنوان، إذ لا معنى للسلام أثناء الحرب ودك بيوت غزة بالصواريخ والقنابل واستهداف العائلات وقتل الأطفال وتجاوز الشهداء سبعة آلاف، كل هذه الأحداث المؤلمة والمشاهد القاسية، يتحدثون عن السلام ويتم التفاوض على تهجير الفلسطينيين وتصنيف حماس كمنظمة إرهابية والتعاطف مع إسرائيل، تلك هي شروط أمريكا مقابل السلام. ونظراً إلى تباين المواقف السياسية انتهت قمة السلام بدون بيان نهائي مشترك. ووفقاً لمنطق السياسة الدولية، تعتبر هذه القمة غير ناجحة. والعجيب هو البيان المشترك من طرف 9 دول عربية، يمكن اختصاره بجملة واحدة: نرفض ندين نطالب نعرب وهلم جراً، وإذا أردنا التهكم السياسي قليلاً قلنا: نرفض وأخواتها التسع، ذلك هو الموقف الأخير.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إدة جعفر مولاي الزين
كاتب وصحفي موريتاني
تحميل المزيد