كان الحصار الأول الذي تعرّض له المسلمون في عهد النبي ﷺ في شِعب أبي طالب، أي بعد إعلان الدعوة الإسلامية، وإقبال الناس عليها في مكّة، وما كابده النبي ﷺ والصحابة الكرام (رضوان الله عليهم) على أيدي المشركين آنذاك، هو تلبية لدعوة الله تعالى في الثبات والصبر، وإيمان بالقضاء والقدر، إذ كابدوا المشقة والمعاناة والمِحن من مقاطعة اقتصادية واجتماعية، وحرب نفسية، وأذىً وتضييق وجوع، والتي لا يمكن لإنسان عاديّ، وفئة بسيطة أن تَثبت في وجهها، ولكنّها الدعوة الحقة، والإيمان بالصادق والقوي بالله وحده، والتوكل عليه، واحتساب الأجر والثواب عنده، جعلتهم يصبِرون وينتصرون. وما يتعرّض له شعب غزّة وفلسطين من عقاب الجماعي، وحصار وتجويع وقتل وتشريد، وخذلان عالمي، يجعلنا نقارن حصار المؤمنين في زمنين، والظروف التي مرّت بها أمتنا في بدايات انتشار دعوة الإسلام، وما تعانيه اليوم في ظل الحصار والعدوان والخذلان للمستضعفين في فلسطين.
قال ابن القيم في حصار شِعب أبي طالب: لما رأت قريش أمرَ رسول الله ﷺ يعلو الأمورَ ويتزايد، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب ابنَي عبد مناف: أن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يُكلِّموهم، ولا يجالسوهم حتى يُسلِّموا إليهم رسول الله ﷺ. وكتبوا بذلك صحيفةً وعلَّقوها في سقف الكعبة… وحُبس رسول الله ﷺ، ومن معه في شعبِ أبي طالب ليلةَ هلالِ المحرَّم سنةَ سبعٍ من البِعثة، وعُلِّقت الصحيفة في جوف الكعبة، وبقُوا محبوسين محصورين مُضيَّقاً عليهم جدًاً مقطوعاً عنهم المِيرة والمادة نحو ثلاث سنين، حتى بلغهم الجَهدُ وسُمِع أصواتُ صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب.
قال الزُّهريُّ: "ثمَّ إنَّ المشركين اشتدُّوا على المسلمين كأشدِّ ما كانوا؛ حتَّى بلغ المسلمين الجهد، واشتدَّ عليهم البلاء، وأجمعت قريش أن يقتلوا رسول الله ﷺ علانيةً؛ فلـمَّا رأى أبو طالب عمل القوم؛ جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يُدخِلوا رسول الله ﷺ شِعْبَهم، ويمنعوه ممَّن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمُهم وكافرُهم، فمنهم مَنْ فعله حَمِيَّةً، ومنهم من فعله إيماناً، ويقيناً، فلـمَّا عرفت قريشٌ: أنَّ القوم قد منعوا رسول الله ﷺ؛ أجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم، ولا يبايعوهم، ولا يَدْخُلوا بيوتهم؛ حتَّى يُسلموا رسول الله ﷺ للقتل، وكتبوا من مكرهم صحيفةً، وعهوداً ومواثيق؛ ألا يتقبَّلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا تأخذهم بهم رأفةٌ؛ حتَّى يسلموه للقتل.
ازداد إيذاء المشركين من قريش، أمام صبر الرَّسول ﷺ والمسلمين على الأذى، وإصرارهم على الدَّعوة إلى الله، وإزاء انتشار الإسلام في القبائل، وبلوغ الأذى قمَّته في الحصار الماديِّ، والمعنويِّ؛ الَّذي ضربته قريشٌ ظلماً وعدواناً على النَّبيِّ ﷺ وأصحابه، ومَنْ عَطف عليهم مِنْ قرابتهم. وقد لبث بنو هاشم في شِعْبهم ثلاث سنين، واشتدَّ عليهم البلاء، والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركون طعاماً يقدم من مكَّة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه، فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله ﷺ.
وكان أبو طالب إذا أخذ النَّاسُ مضاجعهم؛ أمر رسولَ الله ﷺ فأتى فراشه حتَّى يراه من أراد به مكراً، أو غائلة، فإذا نام النَّاس؛ أخذ أحد بنيه، أو إخوته، أو بني عمِّه، فاضطجع على فراش رسول الله ﷺ، وأمر رسولَ الله ﷺ أن يأتي بعض فرشهم، فيرقد عليها.
واشتدَّ الحصار على الصَّحابة الكرام، وبني هاشم، وبني المطلب، حتَّى اضطروا إلى أكل ورق الشَّجر، وحتى أصيبوا بشظف العيش، وشدَّته إلى حدِّ أنَّ أحدهم يخرج ليبول، فيسمع بقعقعة شيءٍ تحته، فإذا هي قطعةٌ من جلد بعيرٍ، فيأخذها، فيغسلها، ثمَّ يحرقها، ثم يسحقها، ثمَّ يستفُّها، ويشرب عليها الماء، فيتقوى بها ثلاثة أيام، وحتَّى لتسمع قريشٌ صوت الصِّبية يتضاغون من وراء الشِّعْب من الجوع.
فلمَّا كان رأس ثلاث سنين، قيَّض الله – سبحانه وتعالى – لنقض الصَّحيفة أناساً من أشراف قريشٍ (من غير المسلمين)، وكان الَّذي تولَّى الانقلاب الدَّاخلي لنقض الصَّحيفة، هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أبي أميَّة المخزومي، وكانت أمُّه عاتكة بنت عبد المطَّلب، فقال له: يا زهير! أقد رضيت أن تأكل الطَّعام، وتلبس الثِّياب، وتنكح النِّساء وأخوالك حيث قد علمت، لا يبتاعون، ولا يُبتاع منهم، ولا يَنكحون، ولا يُنْكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله، لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثمَّ دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم؛ ما أجابك إليه أبداً، قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ، والله لو كان معي رجلٌ آخر؛ لقمت في نقضها! فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبْغِنَا ثالثاً.
فذهب إلى المُطْعِم بن عديٍّ، فقال له: يا مُطْعِمُ! أقد رضيت أن يَهْلِك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهدٌ على ذلك، موافقٌ لقريشٍ فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه؛ لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً! قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ، قال: قد وجدت لك ثانياً، قال: من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثاً، قال: قد فعلت، قال: مَنْ؟ قال: زهير بن أبي أميَّة، فقال: أبغنا رابعاً، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحواً ممَّا قال للمطعم بن عديٍّ، فقال له: ويحك! وهل نجد أحداً يعين على ذلك؟ قال: نعم، زهير بن أبي أميَّة، والمطعم بن عديِّ، وأنا، فقال: أبغنا خامساً، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطَّلب بن أسد، فكلَّمه، وذكر له قرابته، وحقَّهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الَّذي تدعوني إليه من أحدٍ؟ قال: نعم، ثمَّ سمَّى له القوم؛ فاتَّعدوا خَطْم الحَجون ليلاً بأعلى مكَّة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصَّحيفة حتَّى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤُكم، فأكون أوَّل من يتكلَّم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أميَّة عليه حُلَّةٌ، فطاف بالبيت سبعاً، ثمَّ أقبل على النَّاس، فقال: أنأكل الطَّعام، ونلبس الثِّياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يُبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تُشقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ! فقال أبو جهل – وكان في ناحية المسجد -: كذبت والله لا تُشقُّ ! فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب! ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها، ولا نُقِرُّ به، فقال المطعم بن عديٍّ: صدقتما، وكذبَ مَنْ قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، وممَّا كُتِبَ فيها، وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمرٌ قضي بليلٍ، تُشُووِرَ فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلَّم.
قام المُطْعم بن عدِيِّ إلى الصَّحيفة ليشقَّها، فوجد الأَرَضَةَ قد أكلتها، إلا "باسمك اللَّهمَّ". ويذكر ابن هشام: أن رسول الله ﷺ قال لأبي طالب: يا عم! إن ربي الله قد سلّط الأَرَضَة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان؛ فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم؛ قال: فوالله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش! إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي، فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذباً دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم: رضينا، فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله ﷺ، فزادهم ذلك شراً. فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
إن ما لاقته دعوة الإسلام من حصار اجتماعي واقتصادي ونفسي، وغلٍ وكراهية، وتضييق، ومكائد، هو ذاته ما يعاني منه اليوم أهل الحق ورجال الأمة الميامين في فلسطين وغزّة. فيا أهل غزّة وأبطال فلسطين، اعلموا أن ثباتكم هو منهج نبوي راسخ، وهو تثبيت وبشرى لأبناء الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، فما تقدمونه من بطولات وتضحيات هو ثمن باهظ في طريق الحق حتى بلوغ النصر والتحرير (بإذن الله). وإن ما يحدث من محاصرة وتجويع، ومنع للماء والدواء والأكل، هو امتداد لأسلوب أتباع إبليس على مَرّ التاريخ في محاربة أهل الحق والاستقامة، وإن ما تقومون به من تضحيات من أجل دينكم وعقيدتكم ومقدساتكم وأرضكم، لهي من الأعمال العظيمة التي تُؤجرون عليها، فنسأل الله أن يتقبل الشهداء، ويربط على قلوب الجرحى، وما بعد الابتلاء إلا التمكين كما حصل مع النبي ﷺ وصحابته الكرام، فأقدار الله ماضية، وسننه جارية، فلا تتبدل ولا تتغير، ولا تمكين إلا بعد الابتلاء والتمحيص، وستمضي سُنة الله في إهلاك الظالمين والمجرمين،. ومهما كانت التحديات والصعاب، وقدرات العدو وهمجيته، فوعد الله آتٍ ونصره قريب (بإذن الله)، إذ يقول تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} صدق الله العظيم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.