جاءت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والتصعيد العسكري الإسرائيلي غير المسبوق الذي واكبه، بمثابة مفاجأة مربكة للمشهد السياسي الإقليمي ككل، ففي اللحظة التي ظن فيها كثير من الأطراف الإقليمية والدولية أن الأوضاع في الشرق الأوسط ذاهبة إلى الاستقرار، وفي القلب من ذلك احتواء القضية الفلسطينية، باعتبار أن السلطة الفلسطينية وحكومة غزة صارتا تحت السيطرة الكاملة، وأنهما تعانيان من عزلة سياسية متزايدة، خصوصاً مع موجة التطبيع العربي المجاني مع دولة الاحتلال الإسرائيلية، وما تبع ذلك من اتفاقيات وترتيبات أمنية واقتصادية طموحة، كانت عملية طوفان الأقصى، وتداعياتها العسكرية والسياسية على المستويين الإقليمي والدولي كحجر ثقيل ألقي في مياه راكدة، وأعادت إرباك المشهد السياسي سواء للأطراف المطبعة مع دولة الاحتلال، أو حتى الأطراف المحسوبة على ما يسمى بمحور المقاومة مثل إيران أو سوريا أو حزب الله.
وبطبيعة الحال، فإن النظام المصري هو أحد أكثر الأطراف تأثراً بهذا المشهد المرتبك، إذ وجد نفسه في دائرة صراع هو الأعنف منذ عقود، وبلا سابق إنذار، ما جعل موقفه يتسم بالارتجال الواضح على عدة مستويات، وكذلك اتسمت ردود أفعاله بالضعف الذي يصل إلى درجة التواطؤ مع العدوان الإسرائيلي.
يمكن إجمالاً الحديث عن 3 ملفات أساسية تلخص مأزق النظام المصري في الأزمة الراهنة:
الملف الأول هو الموقف من أهل غزة، والمخططات الإسرائيلية المعلنة بخصوص تهجيرهم إلى مصر، سواء باستيعابهم في سيناء أو حتى في عدد من المحافظات المصرية الداخلية، فكما ورد في عدة تقارير يقدم هذا العرض مصحوباً بإغراءات اقتصادية كبيرة، من أطراف أوروبية وخليجية، وهي المخططات التي كرر النظام المصري رفضها بشكل جازم في عدة مناسبات، لأن قبول نزوح عشرات، إن لم يكن مئات الآلاف من أهل غزة سيكون ذا عواقب أمنية وخيمة، بل وقد ينقل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى سيناء إذا أصبحت سيناء قاعدة للهجوم على إسرائيل، وهو السيناريو الذي حذر الرئيس المصري نفسه منه، كما أنه سيحمل طعناً في السيادة المصرية، باعتبار أنه قرار أجبرت عليه الدولة المصرية بإملاءات إسرائيلية، وربما أيضاً أمريكية، مباشرة.
لكن، من جهة أخرى، فلا يبدو أن النظام المصري يفعل الكثير لإفشال مخطط التهجير هذا، فبخلاف وجود مؤشرات أولية تشير إلى أن النظام المصري لم يكن لديه رفض من حيث المبدأ لهذه الفكرة، منها التصريح الشهير للرئيس المصري منذ سنوات بدعمه صفقة القرن، ومنها ما يتداول بشأن الترتيبات الأمنية التي تم اتخاذها على حدود رفح، وعمليات تهجير أهل سيناء، والحديث المتواتر عن إنشاء مجمعات سكنية محاطة بحراسة خاصة مشددة، وكأنها تهيئة لقبول هؤلاء النازحين المتوقعين، فإن هناك تراخياً مصرياً ملحوظاً في محاولة تخفيف الأزمة الإنسانية الموجودة في غزة، والتماهي مع الاشتراطات التعسفية الإسرائيلية لقبول دخول المساعدات، وهو ما يفاقم من وطأة الحصار، ويجعل خيار النزوح إلى مصر خياراً اضطرارياً قد يلجأ إليه سكان القطاع إذا استمر الحال على ما هو عليه، وما كان منتظراً من النظام المصري هو أن يتعامل مع مسألة إمداد أهل غزة بكافة أسباب البقاء من ماء وغذاء ودواء وكهرباء ووقود على أنها مسألة أمن قومي مصري.
القضية الثانية هي الموقف من المقاومة الفلسطينية بشكل عام، والموقف من حماس بشكل خاص، فمن جهة كان هناك فتور دائم في علاقة النظام المصري بحكومة حماس في غزة لاعتبارات كثيرة، أهمها رفض النظام المصري "حكومة إسلاميين" على حدود مصر، لما له من تأثير سلبي على الأوضاع السياسية الداخلية في مصر، وعلاقة حماس التنظيمية بجماعة الإخوان المسلمين، ومنها أيضاً أنها تتبنى خطاً سياسياً مختلفاً بشأن التعامل مع الأزمة فلسطينية مع الخط الذي يتبناه النظام المصري، لذلك فإن النظام المصري تواطأ على حصار القطاع لنحو 16 عاماً، ولذلك فإنه يفضل -بطبيعة الحال- أن تحل محل حماس حكومة أخرى لإدارة القطاع، لكن، على الجانب الآخر، فإن إعادة سيطرة إسرائيل على القطاع، وتفكيك بنية المقاومة، إن تم، فإنه لن يمر دون ثمن من شرعية النظام المصري، وظهوره بمظهر المتآمر على القضية الفلسطينية، خصوصاً أن ذلك لن يتم إلا بعد حرب ممتدة، ودمار واسع، وخسائر فادحة في الأرواح.
لكن التحدي الأهم بالنسبة للنظام المصري هو ترتيبات إدارة القطاع "بعد حماس"، ففي ظل عدم قدرة السلطة الفلسطينية على السيطرة على القطاع في الظروف الراهنة، ورغبة إسرائيل في عدم التورط مرة أخرى في حكم غزة، فإنه سيكون أمام مصر خياران، إما أن تكون أحد الأطراف المتداخلة في إدارة القطاع، وهو ما سيفتح الباب أمام مسؤولية مصرية متزايدة بشأن القضية الفلسطينية، وإما أن ترفض، وهو ما سيفتح الباب أمام تدخل قوى إقليمية ودولية للتأثير على ملف شديد الحساسية بالنسبة للدولة المصرية.
علاوة على ذلك، فإنه في حالة صمود المقاومة، ونجاحها في امتصاص الهجوم الإسرائيلي، ومن ثم فشل إسرائيل في تحقيق أي هدف استراتيجي أو سياسي يمكنه أن يغطي على هزيمتها العسكرية والاستخباراتية التي حدثت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فسوف يعد هذا إنجازاً تاريخياً للمقاومة، وسيزيد من رصيد حماس، ومن جماهيريتها، وهذه -بلا شك- مسألة لن يرحب بها صانع القرار المصري، باعتبار أنها قد تعطي نفساً جديداً لحركات الإسلام السياسي في مصر والإقليم، بل وقد تؤثر شعورياً على المواطنين، وتجرئ القوى المعارضة في مصر.
وهذا ينقلنا إلى المأزق الثالث، ففي مواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية الشرسة، احتاج النظام إلى إظهار أن هناك دعماً شعبياً يمكّنه من رفض بعض الإملاءات الخارجية، والتفاوض من موقع أفضل، لذلك كان هناك تشجيع واضح على التظاهر من النظام الرسمي، بل ودعوة معلنة من الرئيس المصري بإعطائه تفويضاً شعبياً لمواجهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية، لكن هذا التوجه كان له جانب سلبي، وهو أنه أعاد مرة أخرى الحراك إلى الشارع، وأعطى مساحة -كانت مصادرة- للعمل السياسي، لهذا عندما بدأت التظاهرات التي دعا إليها الرئيس في الخروج نسبياً عن السيطرة، برفع شعارات سياسية مناوئة للنظام، اضطر النظام في النهاية إلى وقف هذا الحراك والتعامل بعنف مع التظاهرات التي خرجت لاحقاً.
بإيجاز، فإن مأزق النظام المصري في أعقاب معركة طوفان الأقصى يمكن إجماله في 3 قضايا رئيسية: كيف يمكن التعاطي مع الترتيبات "النهائية" للقضية الفلسطينية، والموقف من حكومة غزة وحركة حماس، وأثر كل هذا على ديناميكيات السياسة الداخلية في مصر. والمأزق في كل هذه القضايا أنه أياً كانت الخيارات التي سيتخذها النظام المصري فإنها غير مضمونة العواقب على استقراره ومشروعيته، أي إن هذه المآزق الثلاثة في الواقع لها علاقة بمعضلة أساسية، وهي انكشاف النظام المصري أمام الضغوط الخارجية بسبب العوار الذي تعاني منه مشروعيته السياسية، سواء في صيغتها القانونية الانتخابية، أو حتى في صيغة شرعية الإنجاز مع تردي أدائه في الملفات الاقتصادية والحقوقية، وإدارته لبعض الملفات المتعلقة بالأمن القومي كملف سد النهضة. ومع هذا الانكشاف، يصبح النظام أكثر اعتماداً على دعم القوى الإقليمية والدولية لتأمين مشروعيته، ويصبح أكثر عرضة لتقديم تنازلات لإرضائها ضمن الترتيبات السياسية والأمنية الإقليمية، وهي التنازلات التي -للمفارقة- تضع مشروعيته على المحك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.