{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون} [آل عمران:160]
يوم السبت، يوم عطلة في إسرائيل، واليوم الذي يلي ذكرى حرب 6 أكتوبر مباشرة بدأ الطوفان، "طوفان الأقصى" المعركة التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية على الصهاينة من قلب غزة، حتى وصلوا إلى عمق الكيان المحتل، شاهدنا خلالها دهشة الإسرائيليين وذُعرهم من المقاومين الأحرار في مقاطع أثلجت صدورنا جميعاً، وفي خضمّ فرحتنا أدركنا أن غزة الصغيرة والمحاصَرة، هي في الحقيقة شامخة صامدة ومرابطة، متسلحة بنصر الله وتوفيقه، ضربت فأوجعت العدو الذي طغى وتطاول على أقصانا وأرضنا المباركة، وقتّل إخواننا وأبناءنا لعقود طويلة، أدركنا كم نحن غارقون في حياتنا ومشاكلنا الفردية، مصرّون على صمتنا وتغافلنا، وكم هم رافضون للخنوع، مصرّون على القتال واسترجاع الأرض المسلوبة مهما كان الثمن.
غالٍ أنت يا أقصى وكل نفيس في سبيلك زهيد
وعندما يتمكن العجز منا ونيأس من تحرير مسجدنا الأقصى وطرد الإسرائيليين من أرضنا المباركة، ويزداد الكابوس سوءاً، تنتفض غزة، تُحيي الأمل فينا، ثائرة على الصهاينة والمنافقين، مؤكدة أنه لا تصالح ولا استسلام، وما بيننا وبينهم دم مهدور ظلماً وعدواناً، وأن الدم بالدم والبادئ أظلم، فالأقصى ليس مجرد قضية للأمة العربية، إنه عقيدة لكل المسلمين، فهو أحد الأماكن الثلاث التي نشدّ الرحال إليها لإقامة الشعائر، هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، هو مسؤولية كل المسلمين في أنحاء العالم، ومن لم يفرح بانتصار يوم 7 أكتوبر ولم يتألم للمجازر التي تستبيح باستمرار دماء إخواننا فليراجع عقيدته قولاً واحداً.
"طوفان الأقصى".. طوفان الأمل والعِزّة، كانت الضربة مُذلة ومُهينة جداً للإسرائليين وأسطورة جيشهم الذي لا يُقهر، أما الثمن فغالٍ، ستدفعه غزة وحدها كما تفعل دائماً، والكيان الغاضب يسعى بشتى الوسائل لإبادة غزة واجتثاثها من الجذور على مرأى من المسلمين والعالم أجمع، ويوماً بعد يوم يزداد القصف وحشية، كأننا نشاهد حصار الأحزاب حين بلغت القلوب الحناجر وظن المؤمنون بالله الظنون، هكذا هم أهل غزة، لا مكان آمن يحتمون فيه، المدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات تُقصف، أما نحن فحالنا كمن يشاهد فيلم رعب، مشاهده متقنة للغاية لكنها الحقيقة، إخواننا تحت القصف ونحن عاجزون أمام الشاشات لا نملك إلا الدعاء لهم والدعاء على العدو.
"مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
في زمن التفاهة والسرعة والهشاشة النفسية، في زمن نعيش فيه الفردانية، كل فرد يسعى لأن يعيش حياة مرفهة بالملذات المادية، لا تعنيه قضايا ومآسي إخوانه في الدين، ما زالت أمهات غزة حريصات على تربية المجاهدين وغرس قيم الحرية في نفوسهم حتى لا يرضَوا بالذل والهوان، لنرى شباباً طموحاً يحفر في الصخر ولا يرضى إلا بالنصر أو الشهادة، وشغلهم الشاغل تحرير الأقصى وبذل الغالي والنفيس في سبيله.
في زمن أصبح الهاتف هو المسيطر على حياتنا ويزاحمنا في تربية أطفالنا، وابتلع بتفاهته اللامتناهية قضايانا وأولوياتنا وتحولت بوصلة الكثير منا نحو محاولة عيش الحياة الدنيا دون ألم ومجاهدة، نبحث فقط عن الملذات ونتناسى أنها مجرد اختبار، بعدما كان القرآن ومكة والأقصى هي بوصلتنا، فكيف لطفل نشأ على الفردانية وشبّ على السعي وراء النجاح المادي فقط، دون أي حساب للآخرة في حياته، أن يصبح رجلاً يفكر في دينه وعقيدته وينصر إخوانه، كيف لأجيال كاملة يبتلعها العالم العولمي أن تكون بوصلتها نحو القرآن ومكة والأقصى؟ كيف نربي أجيالاً يفرحون لفرح إخوانهم وتحزنهم مآسيهم، كمثل الجسد الواحد كما علمنا رسولنا الحبيب، عليه أزكى الصلاة والسلام؟
كل يوم جديد نعيشه هو فرصة مثالية لتصحيح المسار، فكيف بأحداث كهذه؟ إنها فرصتنا جميعاً للوقوف مع أنفسنا وتصحيح بوصلتنا، إخواننا في جبهة القصف مباشرة، مرابطين حامدين الله، أما نحن فنتنعّم في بيوتنا لا نشعر بقيمة النعم التي نعيشها، بل نواصل الشكوى والتسخط على أقدارنا وصعوبة حياتنا ومشاكلنا وكأن الدنيا هي البوصلة التي علينا اتباعها، فالأحداث الجارية ومشاهد إخواننا تحت القصف ذكرى لنا أنه مهما تضخمت الدنيا ومهما تضخم العدو والآلام ستبقى صغيرة، صغيرة جداً أمام حياتنا الأبدية، ومهما نسينا وتناسينا قضايانا في شتى بقاع العالم تُذكرنا غزة دائماً أن الشهادة شرف والجهاد أمام خط العدو هو العزة.
رغم القصف والحصار، رغم ارتفاع أعداد الشهداء المرتقين والدمار، رغم صمت العالم الإسلامي والعربي وطأطأة رأسه للغرب، تعلن غزة للعالم أجمع أنها لن تستسلم، غزة فائزة بصمودها ورفضها التصالح مع قوم خونهم الله وغضب عليهم بنصوص القرآن الكريم، وحذرنا ألا نتخذهم أولياء مهما اختلت موازين القوى، فائزة بارتقاء شهدائها مرابطين بشرف وكرامة، هي مثَلُنا للعزة حتى لا نغتر بالقوة المادية وننسى أن هناك رباً قوياً عزيزاً بيده أن يغير موازين القوى في طرفة عين، ولكن حياتنا لا تزيد على أن تكون مجرد ساحة اختبار، الكل يُختبر، القوي والضعيف، الغني والفقير، الآمن والخائف وعند الله تجتمع الخصوم ليقتص كل ذي حق حقه.
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
غزة الآن هي الذكرى التي تنفع المؤمنين، تذكرنا بحقيقة أن المسلمين كالجسد الواحد، مهما تكالبت علينا الأمم فإن نصر الله آت لا محالة، وأن مع العسر يسراً وأنه في بطن المحن منح وعطايا، رغم الألم لما يتعرض له إخواننا من حصار وقتل ودمار، نَبَض قلب أمتنا مجدداً مُعلناً أنها لن تموت وأفاضت أرض الأقصى علينا من بركاتها، ورغم بعدنا عنها جغرافياً فإن الكثير من شبابنا عادت القضية مجدداً لتحيا في قلوبهم، وتوجهنا جميعاً نحو الأقصى، فلنتعظ ونُري الله من أنفسنا خيراً، ونكون مع إخواننا كالجسد الواحد: نعبر، نقاطع، نتألم، وندعو لهم فلا غالب إلا الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.