جوديث باتلر، من "الفلاسفة" القلائل الذين استطاعوا أن يبرزوا في الساحة الأوروبية، بل والعالمية اليوم، فذاع صيتها بفضل الأسلوب النقدي التحليلي الذي اعتمدته في دراستها للأوضاع المختلفة التي يشهدها العالم المعاصر، ورغم قلة ما كُتب عنها باللغة العربية، فقد اعتمدنا بعض مؤلفاتها وما استطعنا الاطلاع عليه من كتابات لها علاقة بالموضوع، سواء ترجمات قدمها باحثون عرب – والذين لم يبدوا اهتماماً بها إلا مؤخراً- أو بكتابات كانت على شكل مقالات وآراء مقتضبة حولها، وقد كان دافع الباحثين العرب هؤلاء للاهتمام بفكرها متأتياً بالدرجة الأولى من وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثمة جاء الاهتمام بأفكارها التي لا تنفصل عن مواقفها الأخلاقية والسياسية بصفة عامة. فمن هي جوديث باتلر؟ وما هي أبرز مواقفها الأخلاقية والسياسية؟
تعتبر الفيلسوفة الأمريكية جوديث باتلر، من أبرز فلاسفة الجيل الثالث لمدرسة "فرانكفورت"، وهي معتنقة للديانة اليهودية، ولها أصول روسية مجرية، وقد عانت عائلتها من الملاحقات والاضطهادات إبان فترة الحكم النازي (حيث أبيدت عائلة جدتها في قرية صغيرة في جنوب بودابست).
وُلدت الفيلسوفة يوم 24 فبراير/شباط من عام بكليفلاند بولاية أوهايو، واهتمت في سن مبكرة بالفلسفة السياسية والاجتماعية ونظرية الأدب والدراسات الثقافية والجنسانية والنوع الاجتماعي والهوية. حصلت عام 1984 على أطروحة الدكتوراه من جامعة "يال"، حول مفهوم الرغبة عند هيغل، والتي نشرت رسالتها سنة 1987 تحت عنوان "الرغبة: تأثيرات هگلي على فرنسا القرن العشرين" وطورت فيها فهماً جديداً للعلاقة بين الرغبة والاعتراف، كما حصلت على كرسي ماكسين إليوت بشعبة البلاغة والأدب المقارن، لتصير بذلك محاضرة بجامعة بيركلي بكاليفورنيا، مما ساعدها على الاحتكاك أكثر بالمعايير الأدبية والفلسفية والأخلاقية.
في سنة 1993 أصدرت باتلر دراستها الشهيرة، والتي عنونتها بـ"هذه الأجساد التي يجب اعتبارها". ثم حصلت بعد ذلك على كرسي حنة أردنت للفلسفة في كلية الدراسات الأوروبية العليا بسويسرا. بعدها تم انتخابها سنة 2009 رئيسة محكمة هوسرل حول فلسطين، وقد وصفها أستاذ الفلسفة والشاعر الفلسطيني عبد الرحيم الشيخ بـ"المثقفة اليهودية الأخيرة" و"الفيلسوفة العالمية". ومحكمة هوسرل هذه تجمع حلة من المثقفين الأمريكيين حول القضية الفلسطينية. للدفاع عنها وحشد شروط سلام دائم وعادل، وذلك انطلاقاً من موقفها الرافض والثابت لتجنب عنف الدولة الإسرائيلية، والتنديد بتجاوزاتها.
جاء نمو الوعي الفلسفي لدى باتلر نتيجة اطلاعه الواسع لمفكرين وفلاسفة كبار منذ نعومة أظافرها، من قيمة سبينوزا وروسو وهيغل. كما عملت على تطوير فلسفة فوكو وفرويد وألتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا والفلاسفة الوجوديين، وعلى رأسهم سيمون دي بوفوار.
يعرف الفيلسوف الفرنسي جورج غوسدورف الأخلاق: "بأنها طريقة معينة للنظر إلى مجهود التعبير عن الإنسان في العالم"، بالنظر لهذا التعريف نراه ينسجم مع النزعة الوجودية، لذا يمكن أن يفهم منه أن سلوكيات الإنسان التي يعبر عنها بأفعاله في الوجود، تحدد ماهيته، وتخلق له كل مرة "أنا" تعنيه، فالإنسان -كما يقول سارتر- "ليس شيئاً آخر غير ما يفعله".
من خلال هذا التعريف يمكننا أن نفهم توجهات باتلر السياسية وخياراتها الأخلاقية، والتي تتماشى مع فلسفتها العملية بالمجمل، عن الذات والهوية، فيصبح بالإمكان إدراك موقفها المعادي للصهيونية واعتباره قضية أساسية، إذ تحظى بعضوية في كل من الهيئة الاستشارية لـ"الصوت اليهودي من أجل السلام"، واللجنة التنفيذية لـ"أساتذة من أجل السلام الفلسطيني-الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية" و"مسرح الحرية" في جنين، بالإضافة إلى أنها دعت لحملةٍ في أمريكا لمقاطعة إسرائيل بوصفها دولة عنفٍ.
ولم يقف دعم جوديث بتلر عند ذلك، بل ذهبت إلى فلسطين لتلقي محاضرات في جامعة "بيرزيت" حول فلسطين وما تعنيه في الضمير العالـمي عموماً، وفي الضمير اليهودي غير المتصهين على نحو خاص، ليس في ساحتي الثقافة والأكاديمية الأمريكية والأوروبية وحسب، وتحدث بالأخص عن: الحرب على غزة وحصارها، والمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل.
تلك المحاضرات التي ألقتها في فلسطين ربما تفسر الازدواجية الغربية التي نراها اليوم، إذ تعرضت بتلر في تلك المحاضرات إلى ما تسميه "قلق ــ الاستباحة، الحرب على غزة، أم على حياة من يكون الأسى؟". فتناولت من خلالها "العلاقة بين الإعلام وشن الحرب"، ووضحت ضرورة تضمين الإعلام وأطره في ماهية شن الحرب. ولذا، فقد تم فحص حالتين لتطوير بنية هذه الـمقولة: صور التعذيب في العراق وعلاقتها بشن الحرب، والحرب الإسرائيلية على غزة وحصارها.
هنا، أشارت جوديث بتلر إلى جهودَ الدول لتنظيم تمثيلات عنفها الخاص، عبر الإعلام، والتي هي ذاتها أفعال عنفية، إذ ثمة نوعان من العنف الفاعل في العمل الإعلامي: واحد يكبت الوعي العام بالعنف، وآخر ينظِّمه بغية تبرير تمظهراته.
إن هاتين الـمجموعتين من الـممارسات عنفيةٌ بالضرورة، فهما يدشنان الوعي العام بماهية الحرب، وبذلك يمكِّنان من شنِّها؛ كما أنهما يشكِّلان حرباً على الحواس، ويحدَّان من (فضاء) الـمفكَّر به. إن الحرب من ناحية مفهومية لا يمكن فصلها عن الحرب بوصفها واقعاً مادياً، فكلاهما يترتب عليه زيادة قلق ـ الاستباحة عند الجماعات الـمستهدَفة، مقارنة بالاعتراف بقلق ــ الاستباحة كمشترك إنساني.
وعلى هذا النحو، توضح جوديث بتلر "أن تباين قلق ــ الاستباحة يرسم خطاً فاصلاً بين الحيوات التي لا يؤسى عليها للجماعات الـمستهدَفة، وحيوات الآخرين الـمأسوف عليها تاريخياً وبالضرورة. بالتالي تصبح الحيوات التي لا يؤسى عليها هي حيوات لا يمكن خسرانها، ولا يمكن تدميرها، لأنها إنما تثوي في منطقة قد دُمِّرَت وخُسرت سلفاً، ذلك أن تدمير هذه الحيوات، على نحو فعَّال، قد يبدو مكروراً أو طريقة ساذجة للـمصادقة على مسلَّمة! ولعل أحد الأمثلة على تلك (الرغبة) في الإماتة قبل القتل هو إصرار الاحتلال الاسرائيلي على أن الأطفال الفلسطينيين في غزة اليوم قد تم استخدامهم كدروع بشرية لـ مقاتلي "حماس" .
لذلك ندرك اليوم أن الهدف من التكرار وهذا الإلحاح ما هو إلا عمل دنيء لإقناع العالم وإقناعنا بأن أطفال غزة ليسوا حقيقةً أحياء، ذلك أنه قد تم تحويلهم بالفعل إلى قطع من الدروع، والحديد، والـمعدن. وإن الطفل الفلسطيني، لم يعد أكثر من معدن تـمَّت عسكرته، لا حياة فيه، مَيْتٌ-مَيِّتٌ مع وقف التنفيذ، وهذه مدعاة كافية لئلا يؤسى عليه أحد في العالم.
من خلال طرح جوديث بتلر ندرك بشكل أوسع ما يفعله الاعلام اليوم كيف ولماذا يستمر في ازدواجيته، من خلال الأطر الـمفاهيمية والبصرية لتحيوِّل حياة الفلسطينيين إلى لا-حياة، فيصبح حينها لا موقف لدينا سوى أن نعد الـموتى مرةً تلو أخرى، بينما يجعل نفس الإعلام من حيوات الإسرائيليين وحدها حيوات للحياة يجب الدفاع عنها بكل الأثمان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.