سبق وشَرح كثير من المثقفين العرب وغير العرب عقلية الغرب، وبيّنوا أن مسألة العلمانية والتموقع في منطقة الحياد من كل دين مجرد هراء روّج له مثقفو الصف الثالث من العرب وصدقه قطيع من الشارع العربي.
وفي كل مرة يقوم هذا العالم الغربي المحايد والمسالم، بالتدخل في شؤون المسلمين أو غير المسلمين من الفيتناميين والكوبيين والتشيليين، عبر حروب همجية أو دعم الانقلابات الدموية، تتضح حقيقته، يجيّش قطعاناً من المرتزقة إعلامياً من أجل تبييض صورته.
ارتكب الغرب جرائم لا تُحصى، في اليابان كما في فيتنام وأفغانستان، ولا ننسى ما جنته أيدي القوات الأمريكية في العراق، ومع كل هذه الفظائع، ظل رهط عربي متشبثاً بالنوايا الطيبة للغرب، فليست الجرائم التي ارتُكبت إلا للضرورة، فالفيتنامي الذي يرفض الحداثة الغربية لا يستحق الحياة، والعربي الجيد هو العربي الميت؛ على قول أحد القادة الأمريكان.
وقد يتفهم المرء العلاقة العاطفية التي تجمع بعض المثقفين العلمانيين مع الغرب، ويمكن تفسير سر دفاعهم المستميت عن الحداثة بنزعتهم العدائية مع الأديان؛ والدين الإسلامي خاصة، إنما يحار المرء من (شيوخ وعلماء)، تصل لحاهم إلى صدورهم، يدافعون عن أمريكا والغرب، بل وعن إسرائيل.
إسرائيل التي احتلت فلسطين وشردت أهلها، والتي ترتكب -اليوم- جرائم ضد العزّل، وتغتال طائراتها الأطفال والنساء، وتحرق نيرانها النبات والحيوان، وإسرائيل التي تحلم بإقامة وطن من الفرات إلى النيل، لا يجب مقاطعتها اقتصادياً وسياسياً ولا مقاطعة من يدعمها، هذه إحدى الخلاصات بل الفتاوى التي أخرجها بعض المشايخ والعلماء الذين ينسبون أنفسهم للسلف، وبالضبط جامعة المدخلية.
والمدخلية فرقة تنتسب لرجل يسمى ربيع بن هادي المدخلي، أسس جماعته سنة 1990 أي بالتزامن مع حرب الخليج، بمعية محمد أمان الجامي الهرري الحبشي، ولهذا هناك من يسميهم الجامية لنسبة لهذا الأخير، وذلك في خضم النقاش الذي فتح اَنذاك حول جواز الاستعانة بالجيوش الغربية ضد دولة مسلمة التي هي العراق.
رأى علماء ومشايخ الصحوة ويتقدمهم الدكتوران سفر الحوالي وسلمان العودة، بحرمة الاستعانة بالكفار، وهنا جاء دور الفكر المدخلي؛ إذ سيبرز كتيار ديني سلفي يرى بجواز الاستعانة بالكفار، بل ويكفرون من يقول بحرمة الاستعانة، ومن التسعينيات انطلقت رحلة الفرقة المدخلية، لتبدأ فصول من القذف والسب في كل من يعارضها، وتكفير كل الفرق الإسلامية، والدعوة الصريحة لسفك دماء المشايخ وطلبتهم ممن يقفون موقفاً مغايراً لموقف الحكام أو ولاة الأمور كما يسميهم المدخلية.
ما قرأت مقالاً لمدخلي قط إلا ووجدته يناقش أعراض العلماء أو يشكك فيهم، وما سمعت مقطعاً لأحدهم إلا وسمعته يقول بالطاعة العمياء لولاة الأمور والكفر المبين لكل من يعصيهم، بل وذهب البعض منهم لوجوب طاعة الحاكم ولو كان زنديقاً سكيراً، بل ولو زنى على المباشر.
لا يمكن للبعض -أتفهم ذلك- تصديق هذا الكلام، إلا أن دقائق معدودة يقضيها المرء في مطالعة كتاباتهم والاستماع لآرائهم كافية بأن تزيل الشك من قلبه، فيتيقن أنه أمام فرقة من فرق المخابرات العامة، وصدق من قال:
"إن المدخلية ليست على منهاج السلفية، بل على منهاج وزارة الداخلية".
ونحن أمام الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهلنا في غزة، وكحركة تضامن من الشعوب العربية، انتشرت دعاوى مقاطعة المنتجات الغربية والشركات الداعمة للكيان الصهيوني، وقد نجحت هذه الأصوات في الوصول إلى الشارع، فشلت معظم محلات ماكدونالدز وستاربكس وكارفور وغيرها، وضربت مبيعات كوكاكولا وبيبسي وبرينغلس، حتى أصبحت أسعارها بالجملة كسعر المنتج الواحد، ومع ذلك لم يشترها أحد.
وتظل المقاطعة الاقتصادية أقل مساهمة للشعوب العربية والعالمية، ضد مع يقع في جرائم، ولا يعقل أبداً أن يعارضها أحد المسلمين ولا حتى الغربيون المعارضون للكيان. لكن ما لو علمت أن شيوخ المدخلية خرجوا عن بكرة أبيهم في مقاطع متتالية ليرفضوا حملة المقاطعة ويصفوا الشيوخ الداعمين لها بالنكرات.
ورأى أحد مشايخهم أن المقاطعة حرام ما لم يأمر بها ولي الأمر، وأي مسلم قاطع بيبسي دون رضا ولي الأمر فقد خرج من الملة، فانظر كيف بات شرب بيبسي من كمال الإيمان ومقاطعتها من نواقضه.
وكما هي باقي الجماعات الوظيفية التي ظهرت على مر العصور، تلعب الفرقة المدخلية دوراً مهماً في تقسيم شمل الأمة، خاصة في حربها ضد الاستبداد والظلم، وتتعدى أدوارها الخطب والفتاوى، لتلج مجال العملين السياسي والعسكري، ولعل المتابع للملف الليبي يعلم أن التيار المدخلي أحد أذرع نظام حفتر الانقلابي.
والحال أنهم جماعة وظيفية لا تخدم الحكام فقط، بل أضحت اليوم تلعب دوراً مزدوجاً، فها نحن نراها تقف في وجه المقاومة وتصفها بالخوارج، وتنال من المقاومين، وتصف ما تقوم به حماس بالتهور والعدوان على الآخرين، ولا يبقى أمام المدخلية سوى الدعاء للإسرائيليين ومباركة أعمالهم الإجرامية، والحقيقة أن مجرد السكوت عن الإبادة الجماعية وعدم الوقوف مع المقاومة يخدم الصهاينة بشكل لا جدال فيه، فأي خذلان هو أشد من خذلان المستضعفين.
يرى هؤلاء المدخلية أن عدم تكافؤ القوة بيننا وبين إسرائيل كافٍ للاستكانة لهم والخضوع، ويسمون هذا حقناً للدماء، والمقاومة سفكاً للدماء، ونحن نقول: إذا كان مبدأ القوة هو الحكم فكيف انتصرت المقاومة في البلدان الإسلامية؟ وكيف استطاع الفيتناميون أن يطردوا فرنسا والولايات المتحدة؟
إن القضية الفلسطينية مقياس الرجولة ومقياس التدين، ولا مجال فيها للمنطقة الرمادية، وكذلك هي الكاشفة التي كشفت عورة الكثيرين؛ منهم الشيخ ومنهم الرئيس، والفنان، وبيّنت أن الشعب العربي كله مع المقاومة ومن ضدها فإما عميل، أو من أتباع الفرقة المدخلية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.