يتداول في أروقة الساسة والأجهزة الاستخباراتية الغربية والإسرائيلية، وربما العربية، الحديث عماذا بعد القضاء على حماس، وكيف يمكن أن يدار قطاع غزة؟ فهل ستبقى إسرائيل في غزة؟ أم ستترك حكمها لآخرين من القطاع؟ أم ستأتي بالدبابة وعليها من يحكم من الخارج؟
هذا الطرح والحديث عنه يأتي في ظل الخسائر اليومية التي يتعرض لها جيش الاحتلال في المناطق التي توغل فيها شمالي القطاع وشرقيه، وفي وقت يظهر فيه قادة إسرائيل واليأس يسيطر عليهم بسبب هذه الخسائر.
ربما لو كان هذا الحديث ظهر بعد انتهاء العملية العسكرية وتحرير الرهائن وتحقيق إسرائيل أية مكاسب عسكرية غير هدم البنى التحتية للمدنيين، فسوف يكون كلاماً معقولاً، لكن في ظل كل هذه الخسائر المادية والمعنوية، يخرج هذا الطرح، فهذا الأمر يثير حالة من الاستهجان والسخرية والغرابة أيضاً.
إذا ما وضعنا هذا الطرح على طاولة البحث سنجده ضرباً من الخيال بسبب العديد من العوامل، وخاصة التاريخية، والتي تصب في مصلحة المقاومة وحماس.
التاريخ يقول: لا
لم يصمد محتل أمام غزة على مدار تاريخها، ولنا في الانتداب البريطاني تجربة، ومن خلفه الاحتلال الإسرائيلي الذي أُجبر على الخروج منها عام 2005، فيما يعرف بفك الارتباط بين إسرائيل وغزة من طرف واحد.
فلو رجعنا إلى الوراء قليلاً سنجد أن قطاع غزة، ومنذ عام 1967 تاريخ احتلاله من إسرائيل دخل في صدامات لا تعد مع جيش الاحتلال، بداية من العمليات الفدائية عقب حرب الأيام الستة، ومروراً بالانتفاضة الأولى التي انطلقت من مخيم جباليا عام 1987، حين دهست شاحنة إسرائيلية يقودها إسرائيلي من أسدود سيارة يركبها عمال فلسطينيون متوقفة في محطة وقود، ما أودى بحياة أربعة أشخاص وجرح آخرين، وعلى إثر هذه الواقعة اندلعت الانتفاضة التي لم تهدأ وكانت سبباً في ولادة حركة حماس من رحم هذه الانتفاضة والمحنة.
انتهت الانتفاضة الأولى وكانت بداية للعمل المسلح من غزة ضد المحتل الإسرائيلي ببزوغ حماس وأخواتها من فصائل المقاومة، التي أصبحت تنغص على الاحتلال أيامه التي استمرت لفترة وصلت لقرابة 20 عاماً بعد هذه الانتفاضة، إلى أن اندلعت الثانية.
وما أن اندلعت الانتفاضة الثانية في سبتمبر/أيلول عام 2000 حتى ظهرت غزة في هذا المحفل الكبير، ودخلت حماس وباقي الفصائل على خط العمليات الاستشهادية والطعن والدهس ضد جيش الاحتلال لمدة 5 سنوات، حتى ضاق الاحتلال بغزة وخرج بنفسه منها في عام 2005 تاركاً خلفه تاريخاً من الخيبات والهزائم.
من يستطيع؟
بعد خروج الاحتلال الإسرائيلي من القطاع وبعد فوز حماس بالانتخابات النيابية عام 2006 أصبح القطاع بالكامل في يد الحركة الإسلامية، ورغم محاولات سلطة محمود عباس ومن معه لتغيير المعادلة السياسية في القطاع وعزل حماس من الحكم، فشل هذا السيناريو رغم وجود دعم غربي وعربي لهذا الأمر.
الموقف لم يستمر عند هذا الحد، بل نجحت حماس وجناحها العسكري في الحسم العسكري في 2007، وقامت بعملية ضد مكاتب السلطة الفلسطينية ومقرات الأمن الوقائي التي كانت تتبع محمد دحلان مباشرة، وأصبحت غزة عصية على التطويع كما حدث في الضفة.
ومنذ ذلك التاريخ دخلت حماس في 3 مواجهات عسكرية مع إسرائيل؛ في 2009 و2012 و2014، كلها كانت تهدف للقضاء على حماس، ثم تقلصت الأهداف إلى القضاء فقط على القسام، ثم وقف إطلاق الصواريخ من غزة، وأخيراً تأديب حماس، وكل هذا لم يحدث، وخرجت المقاومة من الحروب الثلاثة أقوى مما دخلت فيها.
في عام 2021 تغير الأمر وأصبحت البداية من المقاومة، حين أعطى محمد الضيف قائد أركان القسام الأمر ببدء عملية "سيف القدس" التي غيرت المعادلة مع إسرائيل وجعلتها في موقف رد الفعل وليس الفعل، إلى أن انتهت الجولة بفوز للمقاومة وتغيير قواعد الحرب بين إسرائيل وفصائل المقاومة.
الأمر ذاته يحدث الآن في عملية "طوفان الأقصى"، فحماس وفصائل المقاومة هم من بدأوا المعركة، وهم الآن يديرونها بذكاء عسكري لم يوجد في كثير من جيوش المنطقة، وحتى على المستوى السياسي هم أيضاً من يقودون الصراع السياسي، وإسرائيل في موقف رد الفعل وليس الفعل.
الفكرة لا تموت
وبعيداً عن العوامل المادية السابقة؛ فإن الطرح حول القضاء على حماس، والبحث عمن يدير قطاع غزة بعد الحرب يعد ضرباً من الخيال؛ لأن حماس لم تأتِ من خارج القطاع، بل ولدت فيه وترعرعت على مدار سنواتها التي قاربت الـ40، وأصبح القطاع هو المقاومة والمقاومة هي سكان غزة، فكيف يمكنهم القضاء على هذه الفكرة؟
هم لا يتعلمون الدرس؛ فقد حاولوا من قبل عدة مرات وفشلوا، فمثلاً حاولوا القضاء عليها باعتقال قيادتها ونفي بعضهم إلى مرج الزهور، فماذا حدث؟ عادت أقوى من السابق، وهو الأمر ذاته عندما قتلوا عدداً من قيادتها على رأسهم الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وصلاح شحادة وغيرهم من قادة المقاومة، فماذا حدث أيضاً؟ عادت أقوى مما كانت عليه اجتماعياً وسياسياً أيضاً، وأصبحت أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله أو تغافله.
وفي هذه المعركة أيضاً يريد الغرب ومن ورائهم بعض الدول العربية تطبيق المثل القائل: "بيع الجلد قبل اصطياد الفريسة"، فهم يخططون لما بعد حماس ولا تستطيع إسرائيل ومن خلفها الدعم الأمريكي والأوروبي أن يحرروا الرهائن لدى حماس، ولا حتى معرفة أماكنهم، ناهيك عن الخسائر اليومية في العدة والعتاد والجنود الإسرائيليين، ولم يتبق أمام قادة الاحتلال إلا ضرب غزة بالسلاح النووي حتى تستسلم، وحتى لو فعلوا هذا لن تستسلم؛ لأنهم حقاً لم يتعلموا الدرس!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.