أعلن نتيناهو وحكومة الطوارئ التي تم تشكيلها، أو كما تسمى حكومة الحرب، تنفيذ عملية عسكرية برية في قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" التي كانت في السابع من أكتوبر من الشهر الجاري، وتتضمن العملية ثلاث مراحل:
الأولى: تدمير البنية التحتية البشرية والعسكرية التابعة لحركة حماس.
الثانية: تطهير المناطق المتبقية والقضاء على الخلايا النائمة لحركة المقاومة.
الثالثة: إقامة منظومة أمنية وسياسية في المنطقة تحت مظلة الكيان الصهيوني.
ومن خلال التدقيق في المرحلة الثالثة، يُطرح سؤال جوهري على الطاولة، وهو: من سيحكم غزة بعد حماس؟
تشير العديد من التقارير إلى نية إسرائيل تسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية برئاسة أبو مازن، ومع ذلك، من المتوقع أن ترفض السلطة هذا الاقتراح، خاصةً بعد الاجتياح البري للقطاع ورفض السكان في غزة له.
بعض المحللين السياسيين يرون أنه من الممكن تغيير رئيس السلطة أبو مازن بمحمد دحلان، رجل دولة الإمارات العربية المتحدة، واحدة من أهم دول المنطقة المتحالفة مع إسرائيل. ويُعتقد أن ذلك سيسهل التعامل معه وبناء جسور من الثقة والمنفعة المتبادلة، نظراً للثقة التي يحظى بها، ولخبراته السياسية في التعامل مع قضايا غزة وغيرها.
وفي رأيي، من المرجح أن يرفض دحلان أيضاً تولي رئاسة السلطة الفلسطينية وغزة بعد الاجتياح، حتى لا يُعرض نفسه للانتقاد من قبل الشعب الذي يطمح أن يكون تحت حكمه، خاصةً في ظل الأحداث الراهنة والتوقيت الحساس.
أما عن البديل الأخير، وهو الجهاد الإسلامي، فهو أكثر تشدُّداً في التعامل مع إسرائيل بالمقارنة مع حماس، ومن المتوقع أنه لن يوافق هو الآخر على التعاون مع الاحتلال، وبالتالي، قد تحتل إسرائيل غزة وتسيطر عليها بنفسها، إلا إذا وجدت إرادة دولية وإقليمية لتأسيس كيان دولي لإدارة القطاع بعد طرد حماس منه، وهذه الاحتمالية أيضاً يستبعدها الكثير، ولكن ليس هناك أي شىء مستبعد في السياسة، وخصوصاً مع الأنظمة الإمبريالية.
ومع ذلك، قد تختار إسرائيل خيار حكم غزة في حالة القضاء على حماس والسيطرة الكاملة على القطاع، نظراً للأهمية الجيوسياسية لغزة، فهي منطقة مهمة على ساحل البحر المتوسط، وزادت أهميتها أكثر بعد اكتشاف الغاز في هذه المنطقة من حوض البحر المتوسط.
كما تُعدُّ نقطة حيوية في تسهيل تنفيذ مشروع إسرائيل الكبير، وهو قناة بن غوريون التي ستربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط عن طريق إيلات وخليج العقبة، وتكون بذلك بديلاً لقناة السويس المصرية.
بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر غزة عاملاً ديموغرافياً مهماً للكيان الإسرائيلي، حيث يُمكن بناء مستوطنات جديدة وجذب اليهود الأوكرانيين إليها، وكذلك توزيع سكان المستوطنات في القطاع، نظراً لصالحيته وأهميته كمنطقة للعيش فيها.
يُعتبر ذلك بديلاً عن صحراء النقب التي يصعب على اليهود العيش فيها؛ بسبب ارتفاع درجات الحرارة وطبيعة مناخها الصحراوي، لذلك يعتبر الكيان الإسرائيلي أن غزة تُوفر فرصة لتحقيق خطط استيطانية بالمستوطنين اليهود.
ولكن يرى خبراء عسكريون إسرائيليون ومنهم "موشيه يعلون" قائد هيئة الأركان السابق للاحتلال، أن "الأهداف الإسرائيلية للحرب في غزة هي أوهام، وأن تحقيقها غير ممكن".
وحتى الآن، لم تبدأ إسرائيل العملية البرية الشاملة التي أعلنت عنها وخططت لها، إنما بدأت بعمليات محدودة، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، منها:
أزمة الثقة بين القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وهو ما أكدته صحيفة يديعوت أحرونوت، وأيضاً ما أكدته رئيسة حزب العمل، عضو الكنيست "ميراف ميخائيلي" بأنه "يجب استبدال نتنياهو على الفور؛ ليس غداً وليس بعد الحملة الانتخابية، بل على الفور، ليس هذا ممكناً فحسب بل إنه ضروري".
وكذلك صعوبة التوصل إلى قرارات متفق عليها بشأن القضايا الرئيسية، مثل قضية الدخول البري وقضية الأسرى، واستعداد حماس للحرب من خلال أسلحة موجهة وطيران الزواري الانتحاري والصواريخ الموجهة وشبكة أنفاق معقدة وحزام ملغم حول الحدود الفاصلة، وكذلك الخسائر البشرية المتوقعة من العملية البرية من كلا الجانبين، والخسائر الاقتصادية للكيان الصهيوني الكبيرة، والتي أكدت عليها العديد من المصادر العبرية، ومنها (أكبر بنك إسرائيلي هبوعليم) أن الكلفة الإجمالية للحرب ستكلف خزينة إسرائيل حوالي 50 مليار شيكل (12.5 مليار دولار)، وهي أكبر تكلفة قد تتحملها إسرائيل في كل مواجهاتها مع الفلسطينيين.
وربما يكون هناك رفض دولي لعملية الاجتياح البري الشامل وخصوصاً مع انتشار المجازر بحق المدنيين وضرب المستشفيات في قطاع غزة، وقد رأينا مؤخراً الرأي العام الغربي يتحرك وفقاً للضمير الإنساني الذي غاب عن الأنظمة الغربية، ولكن الطوفان أيقظه في ضمير شعوبهم، ومنها، أكبر مظاهرة في لندن، المدينة التي صنعت الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط، كمشروع من مشاريعها للهيمنة على الشرق الأوسط وبتروله بمعاونة خلفها أمريكا، وكذلك انتشار المظاهرات في ربوع العالم أجمع كتأييد للحق الفلسطيني وتنديد بالمجازر الصهيونية بالقطاع، ما يشكل أداة ضغط على حكومات هذه الدول لإدانة الكيان وجيشه، ويحد من تنفيذ خطط جيش الاحتلال تجاه القطاع وحركة حماس، وعلى أثر ذلك يريد جيش الاحتلال إنهاء العملية البرية بسرعة خاطفة، وتكتيك مفاجئ، لذلك نرجح أن العملية البرية ستكون محدودة وتستهدف أهدافاً معينة وليست عملية شاملة كما مخطط لها.
ووفقاً للمنظور العسكري الذي يرى أن هذه العملية البرية قد تكون حرباً مدنية "حرب مدن"، وهو نوع من التحديات التي تتطلب تدريباً مكثفاً وخبرة في التعامل مع العناصر الثلاثة الرئيسية التالية:
– الجغرافيا التي لا يعرفها سوى أصحاب الأرض، فمن قوانين الجغرافيا أن الأرض تلفظ أي جسم غريب لم تعتده، وأن للأرض قوانين لا يعرفها غير أصحابها، وخصوصاً أرض غزة المليئة بشبكة أنفاق معقدة وكبيرة، فلربما تكون جغرافيا غزة مثل جغرافيا روسيا التي هزمت جيوش نابليون وهتلر وفقاً لنظرية "الدفاع بالعمق"، وكذلك جغرافيا فيتنام التي هزمت أمريكا وجيشها الذي يعد من أقوى جيوش العالم، ويساند الكيان الصهيوني الآن بخبراته وقواته ومعداته وجنرالاته المتخصصين في حروب المدن، مثل الجنرال الأمريكي "جيمس غلين"، والذي تشير عدة مصادر لعودته من إسرائيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، منها شبكة CNN الأمريكية، وذلك بعد أن قدم نصيحة لجيش الاحتلال بعدم خوض المعركة البرية الشاملة لأسباب منها جغرافيا المكان وكثافة السكان المرتفعة داخل القطاع.
– الديموغرافيا المتمثلة في الكثافة المرتفعة جداً لسكان قطاع غزة، وهي أكثر مناطق العالم كثافة سكانية. تبلغ نسبة الكثافة فيه، وفقاً لأرقام حديثة، 26 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، ما ستكون عائقاً مهماً يعيق تقدم أفراد جيش الاحتلال ومعداته، وحتى بعد عمليات التدمير الجوي ستكون أطلال المنازل المهدمة عائقاً حركياً للجنود، وعائقاً مكانياً وبرياً أمام سهولة تحرك المعدات العسكرية الثقيلة، وكذلك سهولة وقوع وحدات جيش الاحتلال في أكمنة جنود القسام والمدنيين من أهل غزة العزة.
– الإمكانات العسكرية التي تمتلكها حماس والتي لم يكشفها أحد إلى الآن، وكذلك حركة عناصر القسام في هذا النوع من الحرب ستكون أكثر فاعلية من عناصر جيش الاحتلال الذي يجهل جغرافيا غزة وأنفاقها، وحرب الشوارع التي تنتظر عناصر جيش الاحتلال، وخصوصاً أن غالبية هؤلاء الجنود من جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم لأجل هذه العملية، وعدد هؤلاء الجنود وصل لنحو 350 ألف جندي، ما يحتاج جيش الكيان وفقاً لهذه المعطيات إلى تدريب مكثف، وهذا ما أكده اللواء احتياط في جيش الاحتلال سابقاً "إسحاق بريك"، أن "الجيش يحتاج إلى عدة أشهر ليكون مستعداً للدخول بكل قوته إلى غزة".
أما عن استعداد حماس، فهي من بدأت الطوفان وقذفت الرعب في جيش دولة كان يقال عنها إنها لا تقهر، فقهرتها القسام في 25 دقيقة بضرب كافة إمكانياتها ومن ثم التوغل داخل مستوطنات غلاف غزة، ما جعل طوفان الأقصى يربك كل خطط ونفسية جنود جيش الاحتلال حتى هذه اللحظة، لأنهم لا يعرفون ما هو مدى استعدادها وبأية طريقة سترد، وأية مفأجاة تنتظرهم!!
وقد نشر الإعلام العسكري لحماس مقطع فيديو يعلن استعدادها لاستقبال جيش الاحتلال؛ باللغتين العربية والعبرية، واختتم الفيديو بعبارة "أهلاً بكم في الجحيم".
وقد أظهرت كتائب القسام استعدادها للقتال، حيث نجحت في إيقاف تقدم جيش الاحتلال نحو قطاع غزة خلال محاولاته المتكررة والمستمرة.
استخدمت حماس تكتيكاتها وصواريخها الموجهة بنجاح حتى هذه اللحظة، مثل صواريخ ياسين وغيرها، ما أعاق التقدم الإسرائيلي وأفشل خططه، بل وتمكنت من تدمير دبابات ميركافا، التي تعتبر أحد أبرز معدات الجيش الإسرائيلي، وقتلت عدداً كبيراً من جنود الاحتلال، سواء أثناء تقدمهم من الجهة الشمالية الغربية للقطاع أم من جهة ساحل البحر المتوسط.
ومن ثم، بعد عرض جزء من بعض المعضلات التى تواجه جيش الاحتلال وحكومته، ربما يجعل الخيار الأخير أمام حكومة الحرب تجنب احتلال القطاع والاكتفاء بعملية برية، ولكن محددة الأهداف، تضعف بها من قدرات حماس العسكرية؛ بحيث لا تشكل خطراً على إسرائيل، ولكن دون أن تزيل حماس من إدارة القطاع، ذلك لعدة اعتبارات، منها:
سيشكل احتلال غزة وإدارة شؤونها، والوقت الذي ستحتاجه إسرائيل للسيطرة عليها من الداخل عبئاً على قدراتها العسكرية والاقتصادية، وسيشتت انتباهها السياسي، وبالتالي ستنشغل عن ملفات مهمة وحيوية لها؛ مثل الملف النووي الإيراني، وكذلك الجبهات التي تشكل تهديداً أمنياً آخر لإسرائيل، مثل الجبهة الشمالية مع حزب الله في جنوب لبنان، وجبهة الجولان، والأراضي السورية المحتلة، رغم أن هذه الجبهات مازال تهديدها للكيان محدوداً، وكان متوقعاً منها الكثير وخصوصاً مع الحرب الشرسة التي تقوم بها إسرائيل تجاه القطاع وحماس التى تربطها علاقة جيدة مع إيران، فهل أذرع إيران تقدم دوراً وظيفياً وشكلياً دون توسيع الحرب مع جيش الاحتلال وترك حماس لمصيرها كما حددت لهم إيران؟ أم ماذا بعد؟!
وعلاوة على ذلك، ستعيش إسرائيل حالةً مستمرة من التوتر والطوارئ، تشبه الحالة الصفرية "حالة الخوف والطوارئ التي كان يعيشها الداخل الإسرائيلي منذ إعلان قيام دولته، أو ما يسمى مجتمع الحرب"، التي كانت عليها قبل توقيع معاهدة السلام مع مصر، في عام 1979م.
بالإضافة إلى ذلك، ستفقد إسرائيل مكانتها الإقليمية المخطط لها من خلال عمليات التطبيع مع الدول العربية والشراكات الاقتصادية. ويتحول التطبيع إلى قطيعة، وسيثير غضباً شعبياً وجماهيرياً عربياً تجاه أي شخص يمد يده لإسرائيل. وقد يؤدي ذلك إلى بروز ثورات عربية جديدة؛ استكمالاً لثورات الربيع العربي على العديد من النظم السياسية بسبب علاقاتها مع إسرائيل.
وبشكل عام، فإن إسرائيل ستعيش حالة شبيهة بثقة العرب بأنفسهم وقدراتهم في محو الكيان الصهيوني قبل عام 1967، فكانت النكبة العربية الكبرى على الكيان الصهيوني.
جيش الاحتلال وحكومته يعتبران نفسيهما الجيش الذي لا يقهر، ويستخفان بالمقاومة الفلسطينية، ما قد يتعين على إسرائيل أن تذوق مرارة النكبة على يد كتائب القسام التي يستخف بها جيش الاحتلال.
فهل ستقدر حكومة الحرب الصهيونية على تحقيق أهدافها وكسر شوكة حماس في القطاع؟ أم أن جغرافيا غزة ستشكل جحيماً ينتظر جيش الاحتلال وتكون نهاية لتاريخ نتنياهو وحكومته الأسود وبداية النهاية للكيان الصهيوني والمشروع الغربي في منطقة الشرق الأوسط؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.