يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1187 ميلادي، تمكن صلاح الدين الأيوبي بعد حصار دام اثني عشر يوماً من تحرير بيت المقدس، من السيطرة الصليبية وسمح لهم بالمغادرة في رفعة أخلاقية لم يمارسوها هم حين دخلوا الأرض المقدسة وأباحوها لأيام قتلاً ونحراً واغتصاباً وتنكيلاً طال الجميع، مسلمين ويهوداً ومسيحيين شرقيين، أي كل أهل بيت المقدس دون تمييز.
لقد كان فعل صلاح الدين رسالة أخلاقية سامية لا تزال تمتد حتى اليوم، حيث إنه حين أنجز فيلم مملكة الضمير (Kingdom of Heaven) عن ذلك الحصار لم يجدوا بداً من الاعتراف بذلك. إن القيم الأخلاقية التي تشكلت في تلك اللحظة هي امتداد لقيم التحرير التي رسمها عمر بن الخطاب في رسالته لأهل بيت المقدس وفي رفضه للصلاة في بهو الكنيسة، حتى لا يأتي يوم ويستغلها بعض المسلمين للاستيلاء عليها بدعوى صلاة عمر فيها.
إنها نفس القيم التي وجهت مقاتلي المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأشاد بها كل من أُطلق سراحه من أسرى العدو، وكذلك كل من صادفهم أثناء ذلك الهجوم المفاجئ الذي ضرب بشكل نهائي أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، ورغم محاولات بعضهم الإساءة إلى المقاومة بافتعال مذابح أطفال رضع لا وجود لها، فإن تلك القيم هي التي انتصرت في النهاية، وهي التي تحرج اليوم جيش العدو.
إذا كانت المقاومة الفلسطينية تلتزم بوصايا النبي محمد عليه الصلاة والسلام في الحرب فلا تقتل شيخاً ولا امرأة ولا رضيعاً ولا طفلاً ولا متعبداً في محراب ولا مزارع في أرض ولا حيواناً، فإن الجيش الصهيوني يفعل كل ذلك وأكثر، ومنذ اللحظة الأولى لرد فعله الهستيري على هجوم المقاومة الفلسطينية وإلى حد اليوم استُشهد آلاف الأطفال والرضع والنساء والشيوخ ورجال مدنيون لا علاقة لهم بالقتال. وهو أمر طبيعي بالنسبة لقوة تقوم عقيدتها على ذلك. إذ نجد في العهد القديم أن: (اقتلوا الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء حتّى الفناء) سفر حزقيال- الإصحاح التاسع- الآية 6. ونجد فيه أيضاً أمراً يفسر بشكل واضح لماذا تتم تسوية غزة بالأرض وجعلها ركاماً: (فاضرب أهل تلك المدينة بحدّ السيف، وأبسلها بجميع ما فيها حتّى بهائمها بحدّ السيف، وجميع سلبها اجمعه إلى وسط ساحتها، وأحرق بالنار تلك المدينة وجميع سلبها للرب إلهك فتكون ركاماً إلى الدهر لا تبنى من بعد) سفر التثنية- الإصحاح الثالث عشر- الآيتان 16-17.
ولذلك يتنافس جنود العدو في قتل الأطفال ومحو العائلات بأكملها وتسوية الأحياء بجعلها ركاماً، فتلك قناعاتهم وتلك عقائدهم، وهي نفس العقائد التي تؤمن بها كل الجيوش الغربية المجتمعة في البحر الأبيض المتوسط، ولعل ما قامت به القوات الأمريكية من مجازر في الفلوجة دليل على ذلك. وقد صدرت فتوى من عشرات الحاخامات تبرر كل ذلك دينيّاً وأخلاقيّاً وأرسلت لرئيس وزراء العدو الصهيوني.
إنها حرب بين القيم الأخلاقية والإنسانية التي تحرك المقاومة الفلسطينية والإيمان القوي لأهل غزة المتمسكين بأرضهم مهما كانت التضحيات، وقيم الانحطاط الأخلاقي والإنساني التي تمثلها دولة العدو الصهيوني وكل القوى الداعمة لها شرقاً وغرباً.
فالحرب في غزة كشفت تهافت مقالات حقوق الإنسان الغربية ونفس التهافت الذي ساندوا وبرروا به الاستعمار الغربي، وكذلك ما قام به نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا واليوم يبررون به وحشية وعنصرية ودموية الكيان الغاصب في فلسطين. لقد سقطت كل المقولات والشعارات الغربية حول الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أمام المجازر التي تُرتكب يوميّاً في قطاع غزة والضفة الغربية، وما يتعرض له سكان مناطق 1948 من عنصرية جلية وواضحة كل يوم.
كما سقطت كل مقولات الوحدة العربية والمصير المشترك وشعار القضية الجوهرية للأمة العربية أمام الصمت المطبق للأنظمة العربية عما يحدث في فلسطين منذ شهور عدة من اعتداء على المسجد الأقصى، ومن حصار ظالم على غزة تنفذه دولة عربية كان المفروض أن تكون الجدار الحامي للحق الفلسطيني، وأن تحمى أولاً وأخيراً أمنها القومي حتى لا تقول بعد فوات الأوان: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض. وأمام ما يحدث اليوم من مجازر في حق سكان فلسطين في الضفة وغزة، ولعل اختيار تاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 للقمة الطارئة هو أكبر دليل على تحالف بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني، بحيث يعطى المدة الكافية للانتصار على المقاومة الفلسطينية التي يزعج وجودها الكثير من تلك الدول، فتكون القمة مجرد بحث في اقتراحات الولايات المتحدة الأمريكية لحكم غزة ما بعد هزيمة المقاومة الفلسطينية وتسليمها لمن يقبل بأن يحكم غزة محمولاً على دبابة العدو.
إن ما حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حدث فارقي في التاريخ المعاصر للأمة العربية والإسلامية وحتى وإن انهزمت المقاومة، وهو أمر مستبعد أو أبيدت عن بكرة أبيها فإن الروح الانتصارية والأمل الذي زرعته في الأجيال الجديدة وهي أجيال غير مؤدلجة ولا متحزبة يشبه ما زرعته الانتفاضة الفلسطينية في الجيل الذي قاد حدث أكتوبر/تشرين الأول.
ففي اللحظة التي ظن الجميع أن قضية فلسطين قد قبرت ذكرهم جيل الانتفاضة أنها ستبقى دوما القضية الأولى وأنه لا تحرر دون تحرير فلسطين أما جيل أكتوبر/تشرين الأول، فقد أدرك أنه لا تحرر لفلسطين دون تحرير الأمة من الاستعمار الداخلي الحليف الموضوعي للاستعمار الخارجي. قد لا تكون هذه المعركة الأخيرة ولكنها بالتأكيد كانت التحضير الموضوعي لتلك المعركة القادمة لا محالة، وكما حرر المؤمنون بقيادة عمر بن الخطاب الأرض المقدسة أول مرة، فإن جيل التحرير القادم سيحررها للمرة الثانية: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾. سورة الإسراء (17)، الآيات: 4 – 8.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.