الحروب السرية في ويكيبيديا.. هكذا يسعى الاحتلال الإسرائيلي لإلغاء الهوية الفلسطينية

عربي بوست
تم النشر: 2023/11/06 الساعة 14:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/11/06 الساعة 14:00 بتوقيت غرينتش
الحروب السرية في ويكيبيديا.. هكذا يسعى الاحتلال الاسرائيلي لإلغاء الهوية الفلسطينية - صورة تعبيرية - عربي بوست

مضى على وُجُودي وتحريري في موسوعة ويكيبيديا العربية 16 سنة وشهراً واحداً حين كتابة هذه السُّطُور، التي ما برحت أتردد في نشرها مُنذ زمن لاعتقادي الأول أن لا طائل من نشر هذه المعلومات واحتمالية إساءتها لصورة الموسوعة بشكلٍ أو بآخر، وهي التي يفترض العديدون بشأنها أصلاً افتراضاتٍ ما أنزل الله بها من سُلطان. أما الآن وبسبب الازدواجية التي يتبناها العالم الغربي وضرب مؤسساتهم الإعلامية الموضوعية بعرض الحائط نتيجة عملية طوفان الأقصى، وانعكاس ذلك على النسخ اللغوية لويكيبيديا كافة، خاصةً العربية، ارتأيت أن أُسلِّط الضوء على الصراع الخفي الذي يدور في موسوعتنا العربية حين بُرُوز أزماتٍ وحُرُوبٍ وجرائم تخصُّ العالم الإسلامي عامةً وبلادنا العربية خاصةً، لا سيما أن تطاول الطرف الآخر بلغت حداً غير مسبوق هذه المرة، رافقها إصرارٌ وتصلُّبٌ وتصدِّي من المُستخدمين المُتطوعين القائمين على رعاية الموسوعة للحيلولة دون تزوير الحقائق وتهوين وقع جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة. 

سجلت حسابي في ويكيبيديا العربية خلال شهر سبتمبر/أيلول سنة 2007، وكُنتُ ما أزال طالباً جامعيّاً، وحينها وصل عدد مقالات ويكيبيديا العربية لأقل من 50 ألف مقالة، وكان رقماً مُخزياً لا يعكس عدد المُتحدثين باللُّغة العربية وإمكانياتهم وطاقاتهم الحقيقية، مُقارنةً بويكيبيدياتٍ أُخرى يقل عدد مُتحدثي لُغتها عن العرب والناطقين بالعربية، من شاكلة ويكيبيديا السويدية، التي بلغ عدد مقالاتها خلال أواسط شهر سبتمبر/أيلول سنة 2007 قُرابة 250 ألفاً

تطور عدد المقالات ومُستواها في ويكيبيديا العربية خلال السنوات اللاحقة، فوصلت إلى مليون مقالة سنة 2019، وما زال العدد يتصاعد حتى هذه اللحظة. وتطورت أهمية الموسوعة تماشياً مع تنامي مُحتواها وتفصيله، وصارت تظهر على رأس قائمة نتائج البحث في جوجل، وكثُرت المواقع المُقتبسة من مقالاتها أو التي كانت تنسخها نسخاً كاملاً أو توصي بمُطالعتها (انظر قائمة ببعض الاستشهادات بويكيبيديا)، ما دفعنا عبر السنوات إلى وضع سياساتٍ أكثر تفصيلاً وتشدُّداً لضبط جودة المحتوى المُقدم إلى القارئ العربي، منها على سبيل المثال: سياسة الاستشهاد بمصادر وسياسة النظريات الهامشية المُعتمدتان في 8 أغسطس/آب 2020، وماهية المصادر الموثوقة التي يُمكن الاستشهاد بها في الموسوعة (اعتُمدت في 2 يونيو/حُزيران 2020 وإمكانية التحقُّق منها (اعتُمدت في 25 أبريل/نيسان 2021)، وغيرها من السياسات.

أدركنا خلال بدايات العقد الثاني من هذا القرن مدى تأثير ويكيبيديا العربية على المتصفح والقارئ العربي أو الناطق بالعربية، لكثرة من يدخلوها يوميّاً ويقتبسون منها كما أُسلف، وأدركنا مدى المسؤولية المُلقاة على عاتقنا، نحنُ المُحررين والإداريين في الموسوعة، كي ننقل المعلومة السليمة للناس بعيداً على التحيُّزات الإعلامية، وأدركنا أيضاً أن هذه الموسوعة صار بالإمكان استخدامها أداةً للتشويش على الأذهان بقدر ما صار بإمكاننا استخدامها وسيلةً ومنبراً للحفاظ على لُغتنا وثقافتنا العربية والإسلامية وحفظ تاريخنا وتوثيق حاضرنا، وبدأت مُعاناتنا الفعلية بُعيد ربيع الثورات العربية، في ما اصطُلح على تسميته اليوم "الثورات المُضادة"، ولما كانت إحدى أُسس ويكيبيديا هي اعتماد الحيادية في المقالات والوقوف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، فقد كانت هذه الركيزة مدخلاً تحجج به كُل من رغب بتأييد الحكومات والأنظمة العربية والاستشهاد بالوسائل الإعلامية المُوالية لها. ولم تكن تلك مُشكلة من حيث المبدأ، فكان الإداريُّون والمُستخدمون الموثوقون ذوو الخبرة يتتبعون مثل هذه التعديلات ويجعلون صياغتها أكثر قبولاً وصراحةً وموضوعية، فعوض قول: "الهجوم الفلاني هو هُجُومٌ مشكوكٌ فيه"، نقول: "الهُجُوم الفُلاني هو حدثٌ شكّكت فيه الحُكُومة الفُلانية عبر القناة الفُلانية المحسوبة عليها، بينما أكدها الوسيلة الأُخرى كذا المحسوبة على المُعارضة أو الجماعة الفُلانية أو التيار الفُلاني.. إلخ". 

شكلت ركيزة الحيادية مُشكلة كبيرة حين الحديث عن القضية الفلسطينية وإسرائيل وعدوانها على أهلنا في فلسطين والدُول العربية المُجاورة، وتاريخها الدموي ومجازرها وانتهاكاتها لجميع الأعراف الدولية والمعايير الإنسانية تجاه العرب والمُسلمين مُنذُ فرضها بالقُوة سنة 1948 إلى اليوم. كيف نقف على الحياد في هذه القضية المحورية التي تجمع أغلبنا -على اختلاف مشاربنا وآرائنا وتوجهاتنا- وإن اختلفنا في جميع الأُمُور الأُخرى؟ هذه قضيتنا جميعاً، ولا نُجادل ولا نُفكِّر لذرةٍ من ثانية أنها ليست حق، وأن الاحتلال الإسرائيلي كيانٌ مُغتصِب يقوده مجموعة من العُنصريين، كُل تصريحاتهم مليئة بالأكاذيب والدجل وتزوير الحقائق والتاريخ. كيف لا نميل إلى فلسطين؟ كيف لا نميل إلى أبناء جلدتنا وثقافتنا وديننا؟ كيف لا نُدافع عن حُقوقنا وحُقُوقهم؟ كيف نجرؤ على اعتبار تصريح الصحيفة الإسرائيلية الفُلانية أو هذا  السياسي أو المُحلل أو المُفكِّر أنه "مجرد وجهة نظر"؟!  

كُنا في أغلب الأحيان نضع الرواية الفلسطينية أو العربية للأحداث ونذكر رواية الاحتلال الإسرائيلية، ونحرص على أن نورد الرد عليها، فضُبط الأمر على ويكيبيديا العربية إلى حد كبير. أما النُسخ اللُغوية الأُخرى، وعلى رأسها الإنجليزية، فإن تعديل أي مقالةٍ فيها تتناول الصراع العربي الإسرائيلي كان كابوساً يجثم على صدر المُحرر، لا سيما إن كان عربيّاً أو مُسلماً، فقد تتهافت عليه عشرات الحسابات التي تُبدِّل تعديله أو تُعدِّل عليه تعديلاً يصب في المصلحة الصهيونية ويدعم رواياتهم، من هذه الحسابات ما هو إسرائيلي، ومنها ما هو غربي أو هندي، جمعهم عداءهم للعرب والمُسلمين. وبعض تلك التعديلات قد يكون مُجرد عداء صارخ، وبعضها الآخر يبدو ظاهريّاً أنه تافه أو غبيّ، بينما هو انعكاسٌ لتعطُّش هؤلاء لإلغاء الهوية الفلسطينية. 

إحدى الأمثلة على نوع التعديلات الأخير، خلافٌ وقع خلال شهر أبريل/نيسان 2016 في مقالةٍ تتحدث عن نوعٍ من العقارب المُستوطنة صحاري المشرق العربي، يُسمى "العقرب الأصفر الفلسطيني = Palestine Yellow Scorpion " واسمه العلمي (Leiurus quinquestriatus)، فدخل أحدهم ليُلغي التسمية ويجعلها "العقرب الأصفر الإسرائيلي"! ورغم أن التسمية أُعيدت إلى ما كانت عليه، فلك أن تتخيل إن كانت مقالة كهذه تُشعلُ حرباً تحريرية في ويكيبيديا، فكيف بالمقالات الأهم المُؤثِّرة على صناعة الوعي والرأي العام.

لم يُحاول الصهاينة غالباً خرق ويكيبيديا العربية وتبديل مُحتوى مقالات الصراع العربي الإسرائيلي ليُلائم أهواءهم ورواياتهم، وجلّ ما كان يحصل هو بعض التخريبات هُنا وهُناك على فتراتٍ مُتباعدة، تُسترجع بسُهُولة وتُعاد المقالة إلى سابق عهدها. وإنما كان جُل اهتمامهم، وما زال، مصبوباً على النُسخ اللُغوية المكتوبة بلُغاتٍ عالمية يقرأها مُختلف البشر وبالأخص أبناء المُجتمعات الغربية، وعلى رأس تلك النُسخ ويكيبيديا الإنجليزية وويكيبيديا الفرنسية. 

تبدل هذا الحال خلال الأسابيع الأولى من عملية طوفان الأقصى، فظهرت في الموسوعة بضع حسابات كان جليّاً أنها إما اتفقت مُسبقاً ببعضها مع بعض، أو تنادى أصحابها لدعم بعضهم، وصاروا يُنادون بـ"الحيادية"، لا سيما وأن عامة المُستخدمين والمُحررين العرب في ويكيبيديا العربية، تشجعوا لتسمية الأشياء بمُسمياتها نتيجة العملية وما شاهدناه من مُحاباةٍ غربيةٍ علنية الاحتلال الإسرائيلي، واستغناء كامل عن معايير المهنية والأمانة الصحافية. فصرنا نُشاهد تسميات وتعابير من شاكلة "شُهداء فلسطينيون" و"جيش الاحتلال الإسرائيلي" و"استُشهد من الفلسطينيين كذا".. إلخ بعد أن كُنا نتجنبها التزاماً بركيزة الحيادية المذكورة سابقاً.  

رُغم هول الحدث وأهميته، وحالة الهستيريا التي أصابت الاحتلال وداعميه، فإن الأمر توقف عند هذه النُقطة حتى الساعة، أي مُطالبات بـ"التحييد" والوقوف على مسافة واحدة من الطرفين وما شابه. كما كسرت عملية طوفان الأقصى صورة جيش الاحتلال وهيبته ونالت من سُمعته، يبدو أنها باعثة مرحلةٍ جديدةٍ في ويكيبيديا العربية.

لطالما قرأت تعليقاتٍ مُستفزةٍ ظالمة لويكيبيديا العربية، التي صرفت وزُملائي الأعزاء أوقاتاً ثمينة نُحاول صقلها وصيانتها لنُقدِّم للقارئ العربي موسوعةً يفخر بها تكون مرجعه الأساسي، فيأتي أحدهم ليقول إننا موسوعة صهيونية أو ما شابه، وهو لم يُكلِّف نفسه عناء السؤال أو التعرُّف على الموسوعة وأُسلوب العمل فيها، أو يُحاول التحرير ليتعرف على مُشكلاتها وضوابطها وما يُعوِّقها، وإني أرجو أن تكون هذه المقالة قد أماطت اللثام عن جانبٍ من الجوانب المجهولة للمُتصفِّح العادي، وإننا رُغم عنجهية الطرف الآخر فإن جُل الويكيبيديين العرب متمسكين بالمبادئ، فالحق يعلو ولا يُعلى عليه، والرواية الفلسطينية لم تحتج يوماً للكذب والتدليس والتجميل، شأنها شأن أي قضيةٍ حق.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

باسم فليفل
مؤرِّخ وباحث وويكيميدي لبناني
حاصل على ليسانس في الحقوق والدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر من جامعة بيروت العربيَّة. أعمل حاليًا في مكتبة يافث التذكاريَّة في الجامعة الأميركيَّة في بيروت. وأساهم بشكلٍ منتظم في موسوعة ويكيبيديا العربيَّة (المستخدم الأكثر مساهمةً حتَّى تاريخه) وفي بعض مشاريعها الشقيقة مثل ويكي مصدر وويكي بيانات وويكيميديا كومنز.
تحميل المزيد