لا يؤلم الجرح إلا من به ألمُ
لعل أبيات الشعر أصبحت مآلاً للكثير من قضايا الأمة، نسد بها ثقباً أو نرد بها وشاية، أو نجري بها مقارنة، أو نشير بها إلى حقيقة، هكذا نحن وهكذا تجري أيامنا حين يكثر اللغط بعد كل بطولة للفلسطينيين دون أن يكون لنا موقف حقيقي، وإذا تحركت مشاعرنا نحوهم فهي مبتورة وناقصة، وكما قال "شفيق الحوت"، أحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية: "مهما كنتَ متفهماً ومتضامناً مع الشعب الفلسطيني؛ فلا بد أن تكون فلسطينياً حتى تستوعب ما يعتلج في نفس الفلسطيني الذي يعيش في الشتات، عليك أن تكون فلسطينياً لتعرف معنى المرارة التي يتحسسها الإنسان".
بالطبع؛ فالفلسطينيون وحدهم هم الذين يدفعون الثمن، وأكثر منا إحساساً بقدر المرارة ولكننا -كعرب- أيضاً نشعر بالقضية الفلسطينية بدرجات غائرة في أعماقنا، هذه الدرجات تفوق غيرنا في الغرب بالطبع، فهم مهما تضامنوا ومهما قاموا بتنظيم مظاهرات أو حرقوا أعلام الدول أو اقتحموا مجالسهم وقاعاتهم من أجل القضية الفلسطينية فلن يشعروا بمرارتنا، لأن تضامنهم إنساني في المقام الأول وليس دينياً وعروبياً وأيضاً إنسانياً، وبرغم كل هذا؛ فنحن ما زلنا أقل إحساساً بالقضية من المعنيين مهما ساهمنا وحتى مهما ذرفنا الدموع.
الثقافة هي المحرك لاهتمامات ومشاعر وانتماءات البشر أياً كان، وهي الدينمو التي تضخ الأفكار في المجتمع، ونظراً لتجلي الثقافة الفردانية في الغرب نجد أن الفرد هناك ربما لا يأبه بألم الغير كثيراً.
بينما نحن وأينما وجدنا علينا الغوص والتمرغ بقضايانا الحاسمة، وهذا ما تغفله الحكومات الغربية في أوقات كثيرة، وهو ما يفسر تجاهلها للشعوب العربية عند فرض رؤاها السياسية في المنطقة، لكن اليوم على دول الغرب أن تدرك أن الدول العربية والإسلامية؛ شعوبها مترابطة مهما صغرت دولهم ومهما فرقتهم في سياسات تحييد ممنهجة، يجب أن يعرفوا أن المسلمين جسد واحد، والاعتداء على أرض مسلم يعني الاعتداء على جميع المسلمين.
لطالما حمل أبناء منطقتنا شعوراً ضمنياً بالأخوة ناحية المستضعفين وأبناء الجنوب في رحلاتهم عبر بلدان العالم، ولا أعتقد أن الأمر ينطبق على الفرد الغربي كونه لا يمجد الأسرة والترابط الأسري بالأساس، بعكس الفرد العربي والمسلم عموماً.
داخل المجتمعات الغربية، يمكن أن نستنتج بشكل واضح تجلي مبدأ يحيا الفرد قبل المجتمع، إذ يتم وضع كل المسؤولية على الفرد من الوصول للمعرفة، تبني الأفكار، حرية الانتماء، فتصبح لا حاجة للجماعة التي تشكل هامشاً ضئيلاً، مما قد يؤثر على المسارات السياسية الغربية التي دخلت فيها مسائل الإقصاء والتفكير المتفرد، لدرجة تصل لمعالجة بعض المشكلات بالقوة.
الشعور الذي يعيشه الفلسطيني وما يتوخاه من إخوانه الذين يشاركونه الدين واللغة (على الأقل) ربما هو ما يدمي صدره، بينما ينشغل الفرد الغربي بحياته وجعله غير متفرغ للمشاركة المجتمعية مع غياب كبير للمثل والقيم التي تؤطر المجتمعات بشكل عام والأفراد بشكل خاص، ولا يرتجي منه كبير تضامن وعظيم تآزر؛ فهو يعيش دون اكتراث أو اهتمام لبعض الأحداث التي تجري من حوله لتلك الأسباب وللتضليل الإعلامي الذي تمارسه دولهم (كما يجري حالياً من تزييف للحقائق)، هذا الأمر لم يعشه المجتمع العربي المسلم ولم يتعود عليه في حياته، فالمشاركة والتعاون والتلاحم من أهم الأسس التي تتمتع بها مجتمعاتنا بعكس أنظمتنا.
إننا رغم الظروف الصعبة والمعقدة نندفع كأفراد ومجتمعات تجاه القضية الفلسطينية، وهذا ينبع من ثقافتنا الأصيلة، لذلك نصل إلى درجات أعلى من التضامن والمشاركة. بينما تتفشى النزعة الفردانية في الغرب، فصار الفرد لا يهتم بقضايا المجتمعات الكبرى ولا حتى الصغيرة منها، الفرد هناك منكفئ على ذاته غير مهتم بغيره، فقد دفعت ثقافة الاستهلاك والرأسمالية الشديدة لشحن عقله بضرورة الاهتمام بالنفس لتحقيق رغباتها المطلوبة.
فنرى رغم الحرية التي يتمتع بها الفرد في الدول الغربية، نجد ارتفاعاً في نسب العنصرية أيضاً تجاه العرب وأبناء الجنوب، وربما هذا ما يوضح ما نراه اليوم من ازدواجية في المعايير تجاه القضية الفلسطينية، فبينما تتشدق تلك الدول ومجتمعاتها بحقوق الإنسان والحريات، تدعم أغلبها وتمد الاحتلال الإسرائيلي بالسلاح والعتاد وتعطي الضوء الأخضر لقتل أبناء فلسطين.
ولا يقف الأمر عند ذلك، بل من تسول له نفسه من أبناء العرب أن يظهر تعاطفه وتضامنه مع الفلسطينيين يصبح مشتبهاً به حتى ولو كان مواطناً لدولة أوروبية، فرأينا كيف فسخ نادي ماينز الألماني عقد اللاعب "أنور الغازي" ذي الأصول المغربية، حين قرر أن يمارس حريته لكن لا بفردانية، بل بتضامن مع المظلومين في فلسطين فكان هذا جزاءه من ديمقراطيات وحريات الغرب.
لم تنفع الحرية والفردانية في زرع التضامن والإنسانية في المجتمعات الغربية، لذلك ربما يجد الإفراد هناك مشكلة في إدراك أبسط الحقائق، فيرون الفلسطيني هو المخطئ على الدوام، غير مبالين حتى بشعوره وهو يعيش التهجير من بيته وأرضه، ويرى التضييق في عيشه والتقتير عليه، واعتقاله وسجنه لسنوات دون محاكمة، كما لا تأخذهم به رأفة إنسانية وكأنهم جُردوا منها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.