ترتبط حوادث التاريخ بقانون السببية والعلاقة الوثيقة بين السبب وتأثيره اللاحق والذي لا يتعلق بالضرورة بالمدى الزمني القريب بل بمآلاته البعيدة.
لكل حدث سبب، والأسباب تتوزع بين مباشرة وأخرى غير مباشرة، والأخيرة هي الأهم، ذلك أن الحدث يظل ينضج ويتبلور حتى إذا حانت لحظته كان أسهل شيء عليه أن يتخذ أسباباً مهما كانت بسيطة ليظهر على السطح حاكماً ومؤثراً في مجريات الحياة!.
وقد يجد البعض ممن يطالعون ظواهر الأيام أن الأحداث العميقة تقع فجأة دون مقدمات وبلا استعدادات، في حين أن المتأمل المستمر في حركة الكون والعالم، يكاد يستشعر قدومها، وينصت إلى وقع أقدام عواصفها، ويكاد يلمس علاماتها وممهّداتها، ومن استطاع ذلك عرف كيف يستشرف المستقبل، وليس في هذا ركون إلى الحظ أو إلقاء الاحتمالات جزافاً، بل هي دراسات وحسابات دقيقة توصل المرء إلى أن يقول كلمته الأدق، وفي النهاية لا يعلم الغيب إلا الله دون شك.
لذا أتأمل فيما يجري على الساحة، فألمس فيه متغيراً بارزاً، وحدثاً جللاً، يكاد يتجاوز كل الأحداث الماضيات التي مرت على الأمة، ولعل من الملفت القول إن التاريخ يكتب اليوم وقد وصل طرفاه إلى حافة التناقض والتقاطع الحاد، فكأنه صراع محموم سيفضي حتماً إلى نهايات، ففي الطرف الأول تقبع عملية التطبيع البائسة المنبثقة عن منظومة المسخ والتي يختبئ خلفها كل من خلع عن وجهه وعمله وقوله وسلوكه معنى الحياء، وفي الطرف الثاني تتوهج الدنيا بفعل ثلة مؤمنة تعيد كتابة التاريخ مجدداً بأحرف من نور وضياء.
(حين يشتد صراع الأطراف علينا ترقب الحدث الأكبر) هكذا يقول لنا التاريخ بصدق وحكمة.
إن الدرس التاريخي المهم اليوم يحدثنا عن حقيقة بالغة العمق، وهي تدور حول خرائط العالم التي يراها البعض صمّاء، ثابتة، جامدة، في حين أن الأيام تثبت لنا أنها قابلة للتحرك والاستجابة للنداء حين يعلو ويحين وقته.. وها هو اليوم على ما يبدو قد حان زمنه.
لقد رسخت القوى المهيمنة خارطتها التي تريد، بل وأعادت كل حين التفكير بتشكيلها مجدداً، ومشاريعها تتجاوز تلك النظرة السطحية التي لا تزال تحمل نوايا الخمول والكسل لحياة تعلو وتهبط الأنفاس فيها دونما امتلاك صفة الحياة الحقيقية كما أرادها الله، ولما وجدت تلك القوى من يتطوع ليكون أداة لها جدّت السير في تنفيذ مخططاتها التي كتبت قبل حين على ورق معتق في دهاليز الشرور!
وزاد عليها اختلال توازن العالم، بين القوة المفرطة والتطور التكنولوجي وتجريد الطرف الآخر من كل أدواته وعلو أمواج الشذوذ عن الفطرة وتخلخل بنى المجتمعات لدى محور الإثم، وبين سدود المقاومة التي تواصل الليل بالنهار لتصمد أمام كل ذلك لدى محور الخير، حتى إذا وجدت تلك اللحظة الفارقة، انقسم الناس إلى قسمين؛ الأول يكاد يلقى سيفه الخشبي الرث يأساً وطمعاً، والثاني يرفض بيع الأمنيات مهما بلغت الأثمان.
إذن: ملخص حركة التاريخ اليوم أنه (طوفان) يقف قبالة (طوفان)!
وفي وسط ذلك المعترك المعقد، ينسى الكثير وتحت وطأة ضخ الشرور اليومي، أن التاريخ هو نحن، وأن ما نعيشه هو نتاج مواقفنا، وأن الحياة وخرائط العالم إنما ترسمها ارادة الشعوب، فمهما كانت قوة الخصوم عالية، فإن الكفة ترجح للقيادة الواعية للجموع المؤمنة، حتى وإن كان الختام هو الفناء التام، ذلك أن معنى الخسارة والربح لا يتعلق بالسلامة والنجاة، وذلك هو المعيار قبل تلوث المفاهيم واضطراب القيم!.
إن ما يحصل اليوم على الساحة هو أكبر من صراع على أرض مسلوبة ومقدسات يراد لها المحو لصالح مخططات وخيالات عنصرية ومتوحشة تستند إلى جملة نصوص محرفة، وبعث لأحقاد وعقدة نقص لا تزال تبحث عن تنفيس لها وعلاج! وما نشهده اليوم لقاء تاريخي، بين جبهة المسخ وجبهة الفطرة، ولن يكون من المبالغة القول إن إحياء ذلك النداء العظيم لوحده يكفي به مكسباً!.
خرائط العالم تتشكل اليوم من جديد، وسيعقد المؤرخون لأكتوبر 2023 لاحقاً فصلاً كاملاً بل كتباً ودراسات، فيها من السرد والتحليل الكثير، والمفيد من الخلاصات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.