لست مستغرباً من تصرفات دولة الاحتلال وسلوكياتها تجاه الشعب في غزة، لست مستغرباً أبداً، لأن الأمر ليس بجديد، وكان على الجميع توقع ذلك، فتاريخها مع الحروب التي خاضتها ضد المقاومة الفلسطينية دمويٌّ إلى أبعد الحدود، وكأن الموت طريق إظهار القوة والفتوّة على المدنيين، ومدعاة للنصر.
السؤال الذي يلحّ مطولاً: ألا يوجد من يُوقفها؟
نعم، لا يوجد من يوقفها، فالدول المحيطة غير قادرة على ذلك لعدم توسع دائرة الحرب، ولأسباب عدة أخرى أهمها الاقتصاد، كما أن طبيعة الاتفاقيات تُلزم الكثيرين ربما بالنأي بالنفس وعدم خوض المعارك نيابةً عن الغير، وهنا على الدول مجابهة مصيرها ومغبة سلوكها، وهذا بالضبط ما يحدث في غزة فلسطين هذه الأيام، الدولة التي قاست الانتداب، ثم الاحتلال الإسرائيلي، كما أنه لا تدخل أي مبادئ لدى الكيان الغاصب كأمر رادع له، يحكم سلوك الحرب ويصقل تصرفاته التي قلما توصف بالهمجية.
تعلّمنا منذ صغرنا أن الغابة يحكمها الأقوى، فلا يوجد قانون ولا دافع يجعل الأسد مهادناً للغزال، لذا يبتعد الإنسان عنها، ويذهب مسلحاً لو أراد خوض مهالك الغابة والسكن بها، درءاً للمخاطر التي قد يتعرض لها، هذا الأمر ينطبق الآن على الاحتلال الإسرائيلي وما تجابهه غزة أمامه، فرغم قوة عزم المقاومة على مجابهة دولة الاحتلال، فإن الأخيرة تتفوق عليها في السلاح الجوي، الذي سبَّب كل هؤلاء الضحايا المدنيين الذين نشاهدهم عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، ولو كانت القوى متوازنة لما حدث كل هذا.
دائماً ما يُلام الإنسان على قيامه بالاعتداء على جاره الذي لم يصدر منه سلوك مناوئ، أو إن قام بشيء لا يستحق ردة الفعل الشنيعة، أما عندما يأتي من مكان بعيد ليستبيح المكان ويؤسس سلطة وحشية، يُمارسها بكل حدة، بسبب وبدون سبب، وضيق أيما ضيق على أصحاب الأرض؛ فإن تصرفات أصحاب الأرض ستكون غريزية لدفع الضرر عن أنفسهم، فالأرض لا تعرف إلا صاحبها، وتلفظ المعتدي.
مارس الاحتلال الإسرائيلي شتى أنواع العنف من قتل وتشريد، من خلال المداهمات المستمرة واعتقال السكان الآمنين، حتى أبسط الحقوق في الحياة تحكّم فيها، ويستمر في التضييق على الأرض وأصحابها، من خلال التحكم بمقدار الغذاء، وقطع المياه والكهرباء والاتصالات (في غير أوقات الحروب)، وتجريف الأراضي الزراعية وحرق المحاصيل، وقطع حركة السكان بين المدن والحارات، وممارسة العنصرية البغيضة، وكل شيء سيئ يمكن الحديث عنه.
ماذا يعني أن يفعل الاحتلال ما يريد والعالم ينظر إليه وكأنه لا يعبأ بما يحدث؟
كل تلك الممارسات الاستعمارية يحاول الاحتلال من خلالها تركيع الشعب الفلسطيني الحر، من قتل وتنكيل واعتقال وتضييق وممارسات وحشية، جعلت العقل لا يستوعب هذا السكوت العالمي، وكأن العالم ينظر لما بعد تلك الحادثة، ثم تأتي أخرى فيقول ربما تنتهي، فتأتي غيرها، وهكذا دواليك.
هذا الكيان الاستعماري لم ولن يتعظ من خلال جرائمه السابقة في فلسطين منذ عام 1948 وحتى المجزرة الأخيرة في جباليا قبل يومين، ولعل العالم يتذكر مجزرة بلد الشيخ، في شهر ديسمبر عام 1947، ومجزرة دير ياسين في أبريل عام 1948، ومجزرة خان يونس في نوفمبر 1956، ثم مجزرة صبرا وشاتيلا في سبتمبر 1982، ومجزرة الحرم الإبراهيمي في فبراير 1994، ومجزرة جنين في أبريل 2002، وغيرها من المجازر السابقة، وفي هذا العام مجزرة المستشفى المعمداني ومجزرة جباليا.
بلا قلب ولا رحمة تُنتَزع أرواح البشر، في عالم يسوده منطق الغاب، عالم ينزع منه التحضر بأعنف الطرق، لا أعرف كيف للعالم أن يتناسى ذلك؟ كيف سيتجرأ الغرب أن يصف نفسه بالتحضر والتقدم وهو يحرم نفساً من العيش؟ أي تطور وتقدم هذا الذي يطمر روحاً ويزهقها قهراً وظلماً؟ يبدو أن الغرب لم يتعلم من دروس الماضي، فمازال يشخَص تاريخه الدموي أمامنا جميعاً، مستخدماً التطور التكنولوجي لتوثيقه.
لا يتعلم حتى من تاريخه الدموي في أراضيه، وما فعله الجيش النازي بروسيا في الحرب العالمية الثانية، وكيف راح ملايين البشر في روسيا فداء لوطنهم، ثم كيف قدمت فيتنام ثلاثة ملايين ونصف المليون إنسان في سبيل الحرية من أمريكا، وكيف قدّمت الجزائر أكثر من مليون شهيد أيضاً في سبيل التحرير من المستعمر الفرنسي، وكيف قدمت أفغانستان مئات الآلاف في حربها مع الاتحاد السوفييتي، ومن ثم أمريكا، ألا يعلم هؤلاء أن الاستعمار إلى زوال طال أم قصر.
إن الاحتلال الإسرائيلي متوحش، محب للدماء، إذ إن كل تلك المجازر لا تنتمي لأي فعل إنساني، أو مشاعر بشرية، بل هي إجرام صرف، وسادية استعمار متجذرة، تُسهم فيها دول العالم المتقدم والمتحضر، متجردة من كل العطف والإنسانية التي لطالما تشدقت بها.
لقد تغير العالم بلا رجعة، فالكل اليوم شاهد على أن أمريكا وحكومات أغلب الدول الغربية مشاركة في المجازر التي ارتُكبت بدم بارد في فلسطين، لشعب أعزل كل ذنبه أنه مُحتل، وهذه الهمجية ليست ببعيدة عن دولة الاحتلال وأمريكا وأذنابها، وهذه الطبقة الرقيقة من التحضر تقبع تحتها همجية لا تمتّ للإنسانية، فاليوم لا صوت يأتي ولا قانون فوق قانون الغاب.
في مقابل الانحياز التام الغربي للاحتلال، تفاوتت ردود أفعال باقي دول العالم حول تصرفات دولة الاحتلال، فبعضها قدمت مواقف عملية وواضحة، حيث قطعت علاقاتها مع الاحتلال كبوليفيا، تعبيراً عن استنكارها ورفضها لجرائم الحرب التي تُرتكب في غزة، فيما سحبت كل من كولومبيا وتشيلي سفيريهما من تل أبيب، كما ألغت سلطنة عُمان اتفاقها باستخدام الطيران المدني الإسرائيلي لأجوائها، فيما تناوشت سوريا ولبنان (حزب الله) مع دولة الاحتلال ببعض الرشقات الصاروخية المؤثرة، وفي العراق أيضاً هناك محاولات لضرب القواعد الأمريكية بالصواريخ والطائرات المسيّرة، بينما كظمت بعض الدول العربية والإسلامية الأخرى غيظها، واكتفت بالتنديد والشجب وتقديم المساعدات الإنسانية، خصوصاً تلك الدول القريبة من فلسطين كمصر والأردن لحساسية موقفهما.
أما اليمن فقد بدأ عملياً شنَّ الهجمات الصاروخية على دولة الاحتلال، ما يلقي عبئاً آخر عليها، وجبهة لم تكن قد وضعتها في حساباتها، في حين قدم مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك استقالته؛ احتجاجاً على المجازر والانتهاكات الإنسانية، وهو موقف شديد اللهجة للإدارة الأمريكية، التي تقف بالمال والعتاد مع دولة الاحتلال.
كل هذه الضغوط وغيرها من الضغوط السياسية والاقتصادية وتوسيع دائرة الدول التي تنظر للموقف بريبة كبيرة، سوف تجعلها تتخذ قرارها نحو النأي عن دولة الاحتلال في القريب العاجل، وهذه النظرة ليست بالبعيدة أو المستحيلة، في ظل إصرارها على استهداف المدنيين العزل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.