تجرّأت المقاومة ونفذت طوفانها، فأذاقتنا حلاوة النصر الذي لا نعرف له طعماً، لتعوّدنا على تجرع علقم الهزيمة التي ارتبطت بنا وبتاريخنا الحديث، فهرم منا الكثير معتقداً أن الأصل فينا أن ننهزم، وأتم الدور من وصفهم عمر بن الخطاب بقوله: "لا تُمت علينا ديننا أماتك الله". وهم مجموعة الدراويش والمشعوذين الذين تصدروا المشهد وبذلوا جهدهم في تخدير طاقات الأمة بالتفسير المضلل لمعنى الورع والابتلاء، فمشكلتنا إذاً قديمة، وهي نتاج انهزام نفسي فكري وحضاري عضده عمل منظم مارسته قوى الاستعمار لقتل أمل الثورة والتحرر لدى مجتمعاتنا، وزاده البؤس السياسي ومنظومة الحكم المفلسة التي ترزح على رقابنا سوءاً فوق سوء.
وجاء الطوفان وهشّم الصورة النمطية للصهيوني المتفوق لأنه سليل الغرب الراقي في أصله، وهذا ما يفسر إلى حد كبير رد الفعل العنيف والتطرف الكبير الذي ظهر في التعاطي الأمريكي والغربي عموماً مع هجوم المقاومة ومبالغتهم في دعم الاحتلال، ودفعه إلى خيارات مكلفة كالاجتياح البري لغزة، على أساس أنه الخيار الوحيد الذي يحقق الانتقام الشافي من المقاومة وحاضنتها الشعبية، ويرد الاعتبار لقوة الردع الإسرائيلية، على الرغم من علمهم أنه بالمعطيات الحالية يصاحب هذا الخيار مخاطر عالية وليس من السهل إقراره وتنفيذه.
وفي مقابل وحدة الصف والفعل لدى معسكر العدو نجد الناس عندنا انقسموا إلى فريقين غالبيتهم المطلقة لا تتمنى وقوعه خشية على غزة وأهلها، وخوفاً من الضرر المحتمل أن يلحق المقاومة ورجالها، بينما رهط، هم قلة لحسن الحظ، يعيشون بيننا لكنهم متغربون تائهون يتمنون أن يتم الاجتياح ويأملون أن يُبيد العدو المقاومة وأهلها!
إمكانية تنفيذ الهجوم البري: لو نحاول فهم منطق الاحتلال في حربه المدمرة على غزة وأهلها بعد الـ7 من أكتوبر نجد أنه لا أهداف استراتيجية من سياسة الأرض المحروقة التي يمارسها إلا الانتقام، أو ربما محاولة اليائس لاسترجاع قوة الردع، وإذا كانت حروبه الخمسة السابقة تكتيكية وتصب في إطار استراتيجية الاحتواء، فحربه هذه المرة رد فعل أعمى لا تحكمه استراتيجية واضحة، وقد يقول متابع إن عمليات القصف الهمجي ودون انقطاع هي مرحلة أولى ممهدة لاكتساح بري مؤكد، نقول نعم دون أدنى شك، وعلى رأس أهدافهم ربح الوقت لاستكمال جاهزية قواتهم واستكمال الوجود العسكري الغربي، مع محاولة إنهاك الحاضنة الشعبية للمقاومة والعمل على خلق تململ داخلها، والأهم محاولة إنهاك المقاومة واستنفاد أكبر قدر من ذخائرها وإمكانياتها. لكن التردد والارتباك واضحين على العدو، ويظهر ذلك جلياً في التأجيل المتكرر للهجوم بذرائع مختلفة، مرة بسبب عدم اكتمال الحشد، وأخرى استجابة لطلب أمريكي، وأخرى لسوء الأحوال الجوية، وآخرها وأظنه الأهم وهو انتظار وصول القوات الأمريكية.
ومن التفاسير القريبة لحالتهم هذه اعتياد الاحتلال المبادرة في علاقته بغزة خاصة، وبالتالي خططه حاضرة وبكل الاحتمالات، لكن هذه المرة تحركه جاء كرد فعل وتحت تأثير الصدمة، لهذا تراه يرفع السقف عالياً ويعلن أهدافاً غير قابلة للتحقيق كإبادة المقاومة وإفراغ القطاع من أهله. فمن جهة عوامل عديدة تعمل لصالح الهجوم البري، مثل الرغبة في استعادة قوة الردع وثقة الإسرائيليين في جيشهم، ومحدودية الهجوم الجوي على وحشيته، فهو لا يحقق أي هدف معلن على الأرض، وضغط التأييد الداخلي الشعبي والسياسي الكبير للهجوم البري، والدفع الغربي الضاغط على الاحتلال بتوفير الغطاء السياسي والدعم العسكري وحتى المشاركة المباشرة التي ثبتت ميدانياً على الأقل من قبل القوات الخاصة الأمريكية.
ومن جهة ثانية نجد عوامل أخرى تعمل ضده مثل تأكدهم من جهوزية المقاومة واستعدادها الجيد للمواجهة البرية، وضعف الثقة وخشية إخفاق عسكري جديد أمام المقاومة لا يمكن تحمل آثاره المرعبة بعد ذلك، وضيق الوقت مع تصاعد الزخم الشعبي العربي، وخشية تراجع الغطاء الغربي مع تنامي رفض الرأي العام الدولي لسياسة الأرض المحروقة والعقاب الجماعي التي يمارسهما الاحتلال، ومجموعة شروط الإدارة الأمريكية لأي هجوم بري لاقتناعها أن تحرك الاحتلال يرافقه عمى استراتيجي لا يخدم بتاتاً المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وخشية أمريكا من اتساع المواجهة وتحولها إلى حرب إقليمية يمكن أن تستنزف جهودها التي تفضل توفيرها لما تعتبره أهم، وهي ملفا أوكرانيا وتايوان، وملف الأسرى الضاغط (نوعهم وعددهم)، وهو من الأوراق القوية بيد المقاومة، أمام مجموع هذه العوامل التي يظهر أنها متناقضة يمكن أن ننتصر للرأي القائل باضطرار الاحتلال لتنفيذ هجوم بري رغم ذلك، لكن ما حجمه وما حدوده؟
حجم وحدود الهجوم البري
إذا افترضنا أن الاحتلال بالدعم الغربي اللا أخلاقي قد حسم قراره بتنفيذ هجوم بري، فالإجابة عن المعضلة الثانية في مسعاه أصعب، وهي ما الذي يريد تحقيقه من هذه المغامرة المصنفة "عالية المخاطر"، فليس سراً أن يجزم أي متابع بأن هدف التحالف "الغربي-الإسرائيلي" الشرير هو القضاء على المقاومة التي تقف حجر عثرة أمام تصفية القضية الفلسطينية، لكن الحقيقة التاريخية تؤكد أن مقاومة الشعوب للمحتل لا يمكن القضاء عليها، ولدينا في الاحتلال الفرنسي الاستيطاني للجزائر الذي شوّه التاريخ وغير الجغرافيا على مدى 132 سنة مثال واضح على ذلك، ولو عدنا إلى الواقع على الأرض نجد أن خيارات تحالف الشر تتراوح بين السيئ والأسوأ، والتي يمكن تشريحها فيما يلي:
الخيار الأول: الاجتياح بهدف السيطرة على غزة، وإعادة القطاع تحت إدارتها، ويمثل الحد الأقصى المتوقع، ويظهر أن هذا الاحتمال بعيد المنال، فالاحتلال لا يرغب في تحمل عبء القطاع والتكفل باحتياجاته، والأهم تعريض قواته للاستنزاف والقتل، وحتى أمريكا تعارض هذا المسعى علانية حفظاً لماء وجه حلفائها من الأنظمة الخائنة للقضية باسم التطبيع، ومنحهم شيئاً يتحدثون به.
٢-الخيار الثاني: الاجتياح بهدف تحويل القطاع إلى "ضفة ثانية"، فيقضي على المقاومة ويُحمّل "سلطة أوسلو" مغارم وتكاليف إدارته، المشكلة أنها لن تستطيع (حتى أمريكا) ضمان استمرار أي سلطة، فسلطة عباس على القطاع فقدت مقومات وجودها في غزة منذ 2007، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلن يكون بإمكان سلطة مكونة من "العبابسة أو الدحالنة" الوقوف أمام ضربات المقاومة التي ستتحول إلى تكتيكات حرب العصابات حينها.
٣-الخيار الثالث: الحد الأدنى المتوقع تحقيق الشكل باقتحام محدود مع احتلال مؤقت لبعض الأجزاء إرضاءً للرغبة الشعبية للداخل الإسرائيلي والرغبة الرسمية الغربية، يقابل هذا الخيار تلقي ضربات المقاومة مع محدودية الرد في بيئة معادية، وعدم إمكانية استعمال الطيران والمدفعية، وخسائرهم ستكون كبيرة حينها، فكما يظهر كل الخيارات صعبة وخطيرة على الاحتلال واستمراره، وأمريكا تعي ذلك جيداً، ولهذا تكفلت بالقيادة والتخطيط المباشر.
وعليه نقول:
١-الطوفان خلط أوراق المنطقة بعد أن ظن الغرب أنه أتم ترتيبها. وللتذكير فبايدن في حملته الانتخابية كان يؤكد أن ملف الشرق الأوسط لم يعد أولوية لدى أمريكا، وهو يعني أنه حُسم، خاصة مع مسارعة محور الشر من أنظمة الاستبداد المفلسة للتطبيع مع العدو، وتجاوز المعطى الفلسطيني هذا استراتيجياً. تكتيكيا من الصعب نجاح أي عملية عسكرية برية في القطاع، فضلاً عن إقامة وضع جديد موالٍ للاحتلال كما هو الحال في الضفة كهدف استراتيجي يسمح بتصفية القضية.
٢-الجيد في الموضوع أن حال الاحتلال الآن كحالنا في حروبنا السابقة معه، في الحرص على الصدى الإعلامي والخطاب العاطفي الذي يقتضي رفع سقف الأهداف والتوقعات، فرسمه لهدف إنهاء المقاومة شبيه لهدف من قال: "سنرمي إسرائيل في البحر". دون تقدير سليم لإمكانياته وقدراته ولا لمحيطه، فالجانب التكتيكي على أهميته يكسب زخمه من الخطة الاستراتيجية التي تمثل الهدف النهائي لأي حرب، وبما أن الاحتلال يتحرك بمنطق الانتقام وهو منطق أعمى لا تحكمه استراتيجية، فإعلاناته تشبه إلى حد بعيد معاني المثل العربي "أوسَعتُهُم سَباً وَأوْدَوا بالإبل". وإذا توالى هذا النوع من التحرك ستتوالى معه الإخفاقات الإستراتيجية، وهذا ما يضمن سير الاحتلال في طريق الهزيمة والانهيار، ولو حقق بعض الإنجازات التكتيكية.
٣-واقع ما بعد الطوفان قائم، وتداعياته لن تمحى بأي مآل أو نتيجة تنتهي إليها حرب الغرب-الإسرائيلي على غزة، ومنذ السابع من أكتوبر لا يمكن لأي قوة تجاوز الطرف الفلسطيني ولا محاولة إلغاء المقاومة، وأول ضحايا الطوفان ستكون الحكومة الإسرائيلية المتطرفة وسياساتها العدمية، ومعها سلطة أوسلو التي أقدِّر أنها ستنهار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.