يظل الكلام سهلاً حتى تختبرك المواقف، تظل التصريحات الرنانة، والوعود المبهرة، والبطولة الخاطفة للأنظار محلَّ شك مع أول اختبار حقيقي يواجهك.
فصدق من قال "الكلام مش بفلوس ولا عليه جمرك "، لكنه يظل في ذاكرة محبيك أو متابعيك لو كنتَ شخصيةً شهيرة ومؤثرة.
نعم انتهى زمن التابوهات، زمن التقديس وبَروَزة الأشخاص، فالأقنعة لَطالما سقطت عن شخصيات خذلونا بسبب مواقفهم السلبيه تارة والحيادية تارة أخرى، لكنه العشم الذي ينتاب البعض فيمن يحب، فيتمنى أن يتصرف وفقاً لما يحب.
ومنذ السابع من أكتوبر الماضي، تبدّلت الأمور وتغيّرت الأوضاع وظهرت المواقف وسقط مزيد من الأقنعة.
السابع من أكتوبر، حين تفاجأنا واستيقظنا على عملية "طوفان الأقصى"، التي شنتها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على جيش الاحتلال، وراح ضحيتها أكثر من 1400 قتيل صهيوني وآلاف الجرحى ومئات الأسرى، ووثقت مشاهد لم يرها العرب منذ حرب 1973، أحيت بداخلنا روح المقاومة ونشوة الانتصار على العدو.
يوم واحد فقط وانقلبت الموازين، وتحوّلت مدينة غزة لساحة حرب، كان الرد عنيفاً من قِبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، ما زال كل يوم يزداد عنفاً وسوءاً عن سابقه، بمشاهد مروعة، ولقطات يكاد عقلك لا يصدقها من بشاعتها.
كان الرد بمثابة حرب إبادة جماعية لجميع سكان غزة، قُصفت البيوت على ساكنيها، واستهدفت المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس، التي احتمى بداخلها الناجي الذي أصبح بلا مأوى، بعدما قُصف منزله وتم انتشاله من تحت الأنقاض.
استُخدم الفسفور، المحرم دولياً حسب اتفاقية جنيف عام 1980 ، غارات جوية وصواريخ ليلَ نهار، واعتقالات، وأوامر بالنزوح وترك البيوت إلى مخيمات، ثم استهدافهم مرةً أخرى، تارةً وهم بالطريق استجابةً لأوامرهم، وتارةً أخرى في الأماكن التي نزحوا إليها، مثلما رأينا أسرة مراسل قناة الجزيرة الإخبارية وائل الدحدوح، حين استشهدت زوجته وابنه وابنته وحفيدته عقب نزوحهم لمخيم النصيرات.
طوابير لتسلُّم الأكفان، مشاهد المدافن الجماعية، وداع الأحبة بالقبلات والدعاء بالنصر والشهادة لملاقاتهم من جديد في جنة الخلد.
أما الناجون فإما مصابون أو يتحسسون الركام، عسى أن يعثروا على أحياء ينتشلونهم من تحت الأنقاض.
والأطفال الناجون هناك يلعبون لعبة الشهيد حبيب الله، وأياديهم مسجلة عليها أسماؤهم، فهم مستعدون للشهادة في أي وقت، وهذه الكتابة من أجل تسهيل العثور عليهم ومعرفتهم حال تمزق أجسادهم.
النساء مستعدات للشهادة، جالسات بملابس الصلاة طوال الوقت. والباقون من أُسرهم يجتمعون في غرفة واحدة، كي يلقوا ربهم دفعةً واحدة، فلا يحزن أخٌ على أخته أو أم على ابنها.
الطاقم الطبي لا ينام، ويعالج المصابين رغم قلة الإمكانات وانقطاع الكهرباء، فيحاول جاهداً إسعاف المجروحين من صواريخ الاحتلال.
وهناك الموثّقون للأحداث لحظة بلحظة، منهم الصحفيون والعاملون في مجال الإعلام، ومنهم المؤثرون على صفحات التواصل الاجتماعي، الحريصون على نقل الحقيقة كاملة "لايف" حية؛ كي يشاهدها العالم بأسره، ولا يلتفت لقنوات الإعلام الغربي المضلل، التي ظهرت حقيقتها، وتبيّن أنها تخدم دولاً بعينها، وكانت تتخذ من حرية الرأي والتعبير والتغطية المباشرة "بدون تزييف" ستاراً على ملاكها، أصحاب الأجندات الداعمة للكيان الصهيوني.
وفي ظل هذه الأحداث والمشاهد الصعبة تغيّر الجو العام، أصبحت النشرة الإخبارية ومتابعة آخر التطورات في غزة من رتم يومنا الطبيعي.
فانتشرت وفاحت رائحة الدم في كل مكان، وسيطر إحساس قلة الحيلة على الكثيرين، حتى التنعم بحياتنا الطبيعية وممارسة أبسط حقوقنا من النوم في آمان، والذهاب للعمل، والرجوع لبيت يؤوينا أصبح ويكأنه خيانة لهم، فترفّع البعض عن مشاركة تفاصيل ولو كانت بسيطة على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، كالاحتفال بأعياد الميلاد، ومشاركة مشروبه اليومي على خاصية الاستوري، أو تمرينة الجيم الخاصة به، وتم استبدالها بهاشتاغات دعم ومناصرة لأهل غزة، حيث شعر البعض بضرورة التحرك ولو بكلمة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولو بنقل الصورة من هناك، كتوثيق للحدث الأبشع والأعنف منذ حرب 1948، والبعض الآخر التزم الصمت، ومنهم من كان على الحياد.
فسقطت مزيد من الأقنعة، أقنعة المتسترين تحت عباءة المثقفين والمؤثرين والقوة الناعمة، وبقدر قوة كلمتهم ومدى وصولها لأكبر عدد من الناس بحكم شهرتهم، كان العشم في توصيل صوتهم ولو بكلمة دعم ومناصرة للشعب الفلسطيني، كي تصل لأكبر عدد من الناس، ويعلم الجميع حقيقة إسرائيل، هذا الكيان المحتل الغاصب للأرض العربية، وكل من يدعمه من أنظمة وحكومات ودول.
لا أذكر سوى موقف الفنان محمد سلام، رغم اعتذار الكثير من الفنانين عن إحياء حفلاتهم الغنائية في موقف يُشكرون عليه، إلا أن سلام قام ببث فيديو أعلن فيه اعتذاره عن عدم المشاركة في موسم الرياض بمسرحية "زواج اصطناعي"، حيث رأى أنه غير قادر على ترفيه الناس وإدخال الفرحة عليهم في ظل هذه الأوضاع، في فيديو بثه عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".
وهو ما قوبل بإشادات بالغة وكلمات مؤثرة، تُثني على موقفه النبيل الشجاع، الذي ينمّ عن إنسانية كبيرة وشعور بالآخر، رغم الخسارة المادية، حيث قيل إن أجره في المسرحية قُدر بـ80 ألف دولار.
كما أنه لم يسلم من الانتقادات بسبب موقفه النبيل هذا، ورأينا هجوماً واضحاً وصريحاً على شخصه وتاريخه المهني.
فهل سلام لم يكن على دراية بنتائج خطوته الجريئة هذه؟ أظن أنه كان يعلم، ويعلم جيداً أيضاً عواقب عدم مشاركته هذه، لكنَّه فضّل احترام نفسه أولاً أمام نفسه وأمام عائلته، ومن ثم أمام جمهوره، الذي يعشق أدواره الكوميدية في جميع أجزاء مسلسل "الكبير"، وغيره من الأدوار الخالية من البذاءة، والتي تحترم المشاهدين على اختلاف أعمارهم.
سلّام بث فيديو يعلن فيه عدم تصوير مسرحية "زواج اصطناعي"، ليثبت للجميع أن الإنسان مواقف، وإما أن يكون صاحب رأي وموقف يسطره تاريخه ويسجله لأحفاده فيما بعد، وإما أن يقف على الحياد ممسكاً العصا من المنتصف، فلا يخسر ولا يكسب.
أو أن يُطأطئ لكسب مزيد من الأموال، ويخسر احترامه أمام نفسه وأمام جمهوره الذي لا ينسى.
في النهاية هي مواقفك التي تنمّ عن شخصيتك، والتي ستُحاسب عليها يوم القيامة.
بدون مزايدة أو انتقاد، أو انبهار أو بَرْوَزة لأشخاص بعينهم، ورفعهم لسابع سماء.
فالتاريخ لا يرحم، ومواقع التواصل الاجتماعي أصبحت وسيلةً مهمة لتوثيق المواقف وكتابة التاريخ، وفي النهاية ستقف وحدك أمام رب العالمين، الله العالِم بنواياك، المحاسب على أفعالك الصغيرة قبل الكبيرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.