هل ما زالت هناك مسألة تُسمى القضية الفلسطينية؟ ربما سيُجمع كل من يقرأ هذا المقال اليوم على أن هذا سؤال سخيف، لكن لا بأس، فذاكرة الشعوب للأسف مثل ذاكرة السمك، هي ذاكرة قصيرة المدى، إلا ذاكرة الشعب الفلسطيني بطبيعة الحال، لأنه شعب صاحب قضية، واستطاع أن يُثبت للعالم أن قضيته لن يُنسيهم إياها مرور الزمان، ولن ينسيهم إياها أيضاً تغيُّر الأقطاب السياسية العالمية، وما إن بات الكثيرون يرون أنه لم تعد هناك قضية بهذا الأمر، حتى اهتز العالم على وقع الأحداث الجارية الآن، والتي تدمي القلوب قبل العيون، لتعود القضية إلى الواجهة من جديد كما كانت من ذي قبل، رمزاً لكل المدافعين عن حقوق الشعوب، ورمزاً للشعب المقهور، الذي هُجِّر قسرياً من بلده، وما زال يحلم بالعودة، بل وما زال يفعل كلَّ ما يستطيع حتى يحققَ هذه العودة.
تُمثل القضية الفلسطينية، القضية الأولى ربما للكثير من الشعوب المسلمة، وبشكل خاص الشعوب العربية، لأنها ليست قضية لها ارتباط بأحد الأماكن التي لها أبعاد دينية فقط، بل هي قضية تعتبر بمثابة المرآة لما تقدم الشعوب العربية، لأنها قضية عربية بالأساس، تحمل الكثير من الهموم العربية المشتركة، ولذلك كانت وما زالت دوماً هي رمز للمناضلين والحالمين بالوحدة العربية، لذلك القضية الفلسطينية تسكن وجدان كل العرب ومركز اهتمامهم، نظراً لرمزيتها سواء الدينية أو القومية، وكما ذكرت فإنها لم تكن رمزاً فقط للمسلمين والعرب، بل لكل الحالمين بالتحرر من نير الاستعمار، إلا أن هذه القضية يبدو أنها لم تكن كباقي القضايا نظراً لتعقدها، وربما هذا الذي أطال أمدها، حتى أصحبت مرتعاً لكل المنتهزين، وغطاء يتاجر به الكثير من القادة، وذلك لأنهم يعلمون جيداً مدى توظيف هذا الأمر، ومدى ارتباط المسلمين والعرب به على حد سواء.
قبل سنة، شاهدت اللقاء الذي أجراه الصحفي علي الظفري مع أحد أشهر الكتاب والصحفيين اليهود، الذي اشتهر بعموده الذي يكتبه في نيويورك تايمز، والذي يهتم بشكل خاص بما يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، كانت خلاصة المقابلة فيما يتعلق برأيه بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، أن هذا أمر لم يعد يهتم له العالم، وأن هذه القضية لم تعد بقدر الأهمية التي كانت تشهدها من قبل، وعلق قائلاً اليوم إذا اتصل أحد ما بالرئيس الأمريكي وهو نائم، وأخبره بأن هناك هجوماً مسلحاً على إسرائيل، فإنه سيستدير من اليمين إلى اليسار ويُتم نومه، نظراً لتفاهة هذا الموضوع، أو لملله من سماع هذا الكلام، غير أنه لا توماس فريدمان، ولا غيره من المفكرين والقادة كانوا يتوقعون حجم الهجوم ولا خطورة هجوم بهذا الشكل الذي وقع مؤخراً، حتى إن الرئيس الأمريكي لم يستيقظ من النوم فقط، بل أصبح يقطع مؤتمراً صحفياً فجأة لأن هناك أمراً طارئاً في غرفة العمليات، وأصبحت أحدث الأسلحة الأمريكية تُوجه إلى الشرق الأوسط، ما يعني أن القضية أصبحت تأخذ منعطفاً جديداً.
كلام فريدمان لم يكن آتياً من فراغ، فجهود سنوات من العمل الاستخباراتي والابتكارات العلمية كانت قد بدأت تؤتي أُكلها أخيراً، حيث تحولت دولة إسرائيل من مجرد تنظيم صغير في الصحراء، محارَب من مجموعة من الدول المحيطة به، إلى أكبر قوة إقليمية، قوة عسكرية بدون شك، حيث إن أكبر الشركات المختصة في صناعة الأسلحة، وأكبر الشركات المختصة في صناعات المعدات العسكرية التكنولوجية في إسرائيل بدون منازع، حتى إنها أصبحت المزود الأساسي لجميع الدول العربية، وأصبحت قوة علمية أيضاً، خاصةً في مجال الزراعة، هذا الأمر جعل الدول العربية تخضع لأمر الواقع، وتقبل بتسوية سياسية مع هذه الدولة، مقابل خدمات كثيرة، غير أن هذه التسويات ربما لم تكن تضع في الاعتبار، أو أنها قللت من خطورة كيان عسكري موجود داخل الأراضي الفلسطينية، ولا يؤمن إلا بالعمل المسلح، ويحظى بتأييد شعبي من أبناء الأرض، وإن كان العالم على خلاف معه في أسلوبه أو في قناعاته، لكنه كان موجوداً على كل حال، واستطاع أخيراً أن يغير المعادلة.
من يستطيع تحمّل فاتورة جميع هؤلاء الضحايا الذين سقطوا في قطاع غزة، والذين يُجمع العالم على أنهم أبرياء، هل من حقهم الوجود هناك، لا أحد يستطيع أن ينزع عنهم هذا الحق، فتلك أرضهم، ولا يقبلون غيرها موطئاً، حتى إن من هجرها منهم قسراً لم يستطع أن يجد عنها بديلاً، جميع الفلسطينيين في العالم يحلمون يوماً بأن يعودوا إلى أرضهم، جميعهم يحمل فلسطين في داخله، سواء كان في بلد عربي أو أجنبي، كيف يمكن أن يهدأ لهؤلاء بال إذا لم يتحقق لهم حلم العودة، بل ماذا سيستفيدون هم من هذه التسويات التي تخوضها الدول العربية مع هذا الكيان الذي يرونه مغتصباً لأرضهم، بل ويقتل أبناءهم ونساءهم، وإن كانت جميع هذه الدول تحرص كل الحرص على أن يكون لهؤلاء دولتهم الخاصة في فلسطين، كيف ذلك؟ لا أحد يجيب، وهل هو فقط كلام لتهدئة المشاعر، والتي يبدو أنها تتّقد يوماً بعد يوم، أم أن هذه الدول فعلاً عاجزة أمام الأمر الواقع؟
هل من حق هؤلاء الذين فقدوا الآمال أن يستنجدوا بأي أحد لينقذهم، سؤال يصعب أن يمتلك أحد الإجابة عنه، فمساعدتهم واجبة على الدول العربية، وأعتقد أن أفضل أمر سمعته خلال هذه الاحداث المؤلمة الجارية هو اتفاق جميع الدول العربية على أن تهجير الفلسطينيين أمر مرفوض، وذلك بعدما اتضح أن هناك اتفاقاً مبطناً بين الدول الغربية على تصفية القضية الفلسطينية، بدل إيجاد حل لأولئك المهجّرين، وتوفير وطن آمن لهم، صحيح الكل يعلم الآن، بعد أن لم يبقَ هناك شيء خفي، أن هؤلاء المساكين الذين يموتون في فلسطين، هم بمثابة قربان لصراع دولي، تتنافس فيه دول عظمى على السيادة، هذا الصراع يذهب ضحيته هؤلاء المدنيون الذين لم يتمنوا إلا أن يناموا في هناء، كما يذهب ضحية هذا الصراع أيضاً مدنيون في أماكن أخرى، فهؤلاء الذين يعتقدون أنهم يملكون دولة معترفاً بها، لم يمضِ على وجودهم هناك قرن من الزمان، وما وطنوا هناك، إلا لأنهم كانوا نتيجة صراع دولي أيضاً، وربما ما زالوا، مَن يدري.
ألن يدفع فاتورة هؤلاء المساكين هناك أولئك المتاجرون بالقضية الفلسطينية، صحيح كلنا تتفطر قلوبنا ألماً، ونحن نشاهد أولئك المدنيين الذين يُقصفون هناك بغير ذنب، لكن هل فعلاً تتفطر قلوب أولئك الذين يرونهم مجرد أرقام، كلما قل عدهم كان ذلك في صالحهم، أو من يتطلع إليهم على أنهم فعلاً ليسوا كاملي الآدمية، سواء من يصرح بذلك، أو من يفعل ذلك بذكاء أو من دون وعي، وللأسف هذا الأمر لم يستطع العرب أن يتخلصوا منه، لأنه للأسف ليس مرتبطاً بالأشخاص، بل هو مرتبط بالشعب ككل، بل وبالكيان العربي، أو على الأقل بنموذج عربي ناجح، شخص، دولة، فريق، لا يهم، المهم أن يكون هناك من يستطيع تغيير هذه الصورة النمطية عن العرب.
كثر الحديث في هذه الأيام عن ازدواجية المعايير، وكأن هؤلاء للتو أدركوا هذا الأمر، لم يطرح هذا الأمر اليوم فقط، بل هذه قضية شغلت المفكرين العرب لقرن من الزمان، لكن نحن للأسف شعب لا يقرأ، شعب يحب الخطب وتهييج المشاعر بدل القراءة والفكر الناقد والفاحص، لم تقم الحداثة الغربية المعاصرة إلا على الإيمان بأن هناك مراكز للنور وأخرى للظلمة، ومراكز النور لم يُضئها إلا أناس هم ليسوا كباقي البشر، ولهذا عليهم أن يذهبوا للأدغال ويعلموا البشر الإنسانية، فهؤلاء ليسوا ببشر أساساً، صحيح أن هناك رؤيات نقدية معاصرة لرؤية التنوير التي تؤمن بالمركزية الغربية، لكن هل القادة يؤمنون بهذه النظريات، أم أنها تظل حبيسة الجامعات، والتصريحات، والتعامل مع القضايا التي تضعهم في مواقف محرجة، تكشف عن قناعهم الحقيقي وأنه ليس بالضرورة أن يكونوا مؤمنين بما يتعلمه غيرهم من الشعوب، فهم السادة وغيرهم العبيد، هذه ليست معرفة علمية، بل هي عقيدة دينية عندهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.