احتواء حماس وكتم قطاع غزة
على مدى الثمانية عشر سنة الماضية كان التعامل الإسرائيلي والدولي مع حركة حماس مستنداً على فكرة احتواء الحركة من خلال حصارها جغرافياً، وعزلها سياسياً، وتجريدها دولياً. هذه الفكرة تبناها واستثمر فيها الطرف الإسرائيلي، وعلى رأسه رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، بُعيد سيطرة حماس على قطاع غزة في 2007، واتسقت معها الدول العربية والسلطة الوطنية الفلسطينية، بمباركة دولية. تجليات هذه السياسة تمثلت بالإبقاء على الحصار المفروض على قطاع غزة وعقاب أهله، ومنع حماس من تحقيق أي تقدم سياسي، سواء على مستوى العلاقات الخارجية، أو على مستوى الاعتراف الدولي.
وجاءت سياسة احتواء حماس في غزة متسقة مع الاستراتيجية الإسرائيلية الأوسع في القضاء على القضية الفلسطينية سياسياً، وكذلك على أي احتمالية لحل الدولتين من خلال الاستثمار في الانقسام الفلسطيني، والذي تتطلب الاستثمار في منع الوصول لأي شكل من أشكال المصالحة الفلسطينية. دور السلطة الفلسطينية في تنفيذ هذه الرؤية كان وظيفياً بطبيعة الحال، لكن هذا تطلب أيضاً إبقاء شريان الحياة لإدارة حماس في قطاع غزة من خلال تمرير الحد الأدنى من المساعدات الكافية لمنع انهيار القطاع، ولإبقاء الجسم الفلسطيني برأسين.
وبالتوازي مع كتم قطاع غزة، والقضاء على البعد السياسي للقضية الفلسطينية بدأ العمل بشكل متوازٍ على ما سمي بالاتفاقيات الإبراهيمية التي تقوم على إعطاء الأولوية للمنفعة الاقتصادية و"التنموية" المتبادلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وإغفال أي بُعد سياسي، خاصة فيما يتعلق بالملف الفلسطيني أو الفلسطينيين. هذه المقاربة كانت تتطلب "كتم" قطاع غزة والقضية الفلسطينية عموماً، والذي ظنت إسرائيل أنها قادرة عليها من خلال احتواء حماس، بعد أن نجحت في توظيف السلطة الفلسطينية.
بعد مضي أكثر من 15 سنة على هذه السياسة، تشكلت قناعة لدى العديد من الأوساط الأكاديمية والسياسية بأن حركة حماس تم احتواؤها في قطاع غزة، وبأن الحركة قد تم تطويعها لتركز في أولوياتها على حوكمة قطاع غزة وتوفير الاحتياجات الرئيسية والخدمات لسكان القطاع. أدى ذلك للعمل على زيادة تدريجية لتصاريح العمل المعطاة من قبل الحكومة الإسرائيلية لعمال قطاع غزة. إذ أعلنت إسرائيل في نهاية مارس/آذار الماضي أنها ستزيد عدد تصاريح العمل الممنوحة للفلسطينيين في غزة، من 12 ألفاً إلى 20 ألفاً.
عزز هذا التصور ترسيخ قواعد اشتباك رتيبة تدور في حلقة مفرغة بين الحركة وجيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وتمثل مستوى متقدم من سياسة إسرائيل في "جز العشب"، كما في موجات القتال السابقة، التي انتهت إلى إعادة تثبيت الوضع الراهن دون أي تغيير جوهري في المعادلة. كما أن عدم رد حماس المباشر على استهداف إسرائيل لقيادات حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، والتي كان آخرها في بداية الصيف الماضي، دفع المحللين الإسرائيليين للاعتقاد بأن حماس تم ردعها وبأنها تركز على العمل من خلال الخلايا في الضفة الغربية، وبأنه يمكن وضع قواعد اشتباك جديدة يتم فيها "مكافأة حماس".
الخروج من عنق النفق
مع عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول خرجت حماس من عمق النفق، محاولةً كسر هذه الحلقة المفرغة، وبهذا أثبتت فشل (بارادايم) نموذج الاحتواء في التعامل معها. فالعملية التي جاءت بمبادرة من كتائب عز الدين القسام كانت على نطاق واسع يتجاوز هدف خطف بعض الجنود لمبادلتهم، بل أشارت إلى أن عقل حماس في غزة لم يتم تطويعه، وبأنه كان يستثمر الفرص التي منحتها سياسات الاحتواء السابقة للاستعداد لعملية أوسع تمثل محاولة لكسر الحلقة المفرغة من التصعيد التي فرضتها المواجهات السابقة، وبأن حماس ما زالت تسعى لتغيير قواعد اللعبة، وبأن الخيال السياسي لقيادة حماس في غزة لم يتم حصره ضمن حدود القطاع، بل ما زال يتحضر للخروج من عنق النفق.
كسر قواعد الاشتباك ومحاولة الخروج من عنق النفق، هو ما يدفع الطرف الإسرائيلي والأطراف الإقليمية والدولية للبحث عن رد مختلف هذه المرة؛ يختلف عن الردود السابقة التي انتهت إلى "جز العشب" من خلال اغتيال قيادات حماس ومحاولة تدمير ما أمكن من بناها المدنية والعسكرية وإيقاع أكبر قدر ممكن من الدمار المادي والخسائر البشرية في محاولة لكي إرادة حماس على المواجهة. المأمول هذه المرة ليس ردع حماس أو كي إرادتها، وإنما قتل هذه الإرادة والقدرة على الفعل. ومن هنا جاءت الدعوات لإنهاء حكم حماس، واجتثاث حماس، والقضاء على حماس، ومسح حماس، وتفكيك حماس…إلخ. كما أن إسرائيل أعلنت في ردة فعل أنها لن تعود مسؤولة عن القطاع ولن توفر الوقود (وهو ما يخالف اتفاقية جنيف الرابعة بحكم أن إسرائيل هي القوة المحتلة).
هذه الدعوات لا تمثل برادايم جديد أو استراتيجية متكاملة للتعامل مع حماس، بل تأتي تحت تأثير الصفعة التي تلقتها أجهزة الأمن الإسرائيلية، وترجمة لعنجهية المؤسسة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي، والرعب الذي اعترى العديد من الأوساط من الضربة التي تلقتها "التجربة الإسرائيلية". ومن هنا تتعالى العديد من الأصوات، من محبي إسرائيل، بما في ذلك من الإدارة الأمريكية، بضرورة التفكير في اليوم التالي والإجابة عن أسئلة جوهرية لتشكيل البرادايم الجديد: ماذا بعد الهجوم على غزة؟ وما هو البديل عن حماس؟ وما هي الرؤية السياسية للتعامل مع القطاع؟ وما هي قواعد الاشتباك الجديدة؟ خاصة مع اتساع القناعة تدريجياً باستحالة فكرة القضاء على حماس عسكرياً.
لا يبدو أن هناك إجابة لهذه الأسئلة اللامتناهية التي تشغل عقل صانع القرار الإسرائيلي والغربي على حد السواء، على الأقل ليس الآن، ليس في هذا الوقت الذي يحاول فيه صناع القرار الهروب من هذه الأسئلة ومن استحقاقاتها، ومما قد تعنيه إجاباتها من إدانة لهم ولسياساتهم اللاأخلاقية والفاشلة.
إجابات هذه الأسئلة، والتي ستمثل محددات البرادايم الجديد وفرضياته في التعامل مع حماس ستبدأ بالظهور تدريجياً مع انجلاء غبار المعركة التي أعادت الكلمة للميدان من جديد.
لكن المعطيات الحالية وعجز الطرف الإسرائيلي في اجتراح السياسات تشير إلى أن عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم تُخرج حماس فقط من عنق النفق، بل قد تكون أدخلت إسرائيل فيه!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.