في ظل تصاعد العنف الإسرائيلي ضد قطاع غزة وتحول خطة الحرب الإسرائيلية من الاكتفاء بالضربات الجوية إلى شن هجمات برية وبحرية وجوية متزامنة وبشكل موجه ضد الشعب الفلسطيني في القطاع، تأخذ روسيا مسافة واحدة من أطراف النزاع، وتحاول استثمار تحول الأجندات الإخبارية عن الأزمة الأوكرانية إلى فاجعة قطاع غزة، وهي تحاول كذلك استغلال هذه الأزمة من الناحية العسكرية، حيث تنظر إليها كفرصة لإعادة توجيه الأسلحة والمعدات العسكرية وأنظمة الدفاع الجوي من أوكرانيا إلى إسرائيل.
الموقف الرسمي من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
إن لروسيا استراتيجية واضحة ومستقرة بالنسبة إلى الشرق الأوسط، فهي باستثناء الأزمة السورية حاولت أن تكون على مسافة واحدة من جميع النزاعات والصراعات في المنطقة، سواء كان ذلك بالنسبة إلى الأزمة في اليمن أو حتى موجات الربيع العربي. واتصفت علاقة موسكو بحركة حماس بالإيجابية على مدار السنوات الماضية، فروسيا على خلاف الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، رفضت تصنيف حركة حماس كمنظمة إرهابية.
تاريخياً، كان بوتين من أوائل المهنئين لحركة حماس وقادتها عند انتصارهم في الانتخابات التشريعية لعام 2006، كما قام الرئيس الروسي باستقبال خالد مشعل في روسيا وعقد معه اجتماعات وأثنى على شجاعته. ومع بداية عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر استمرت روسيا على نهجها السابق، إلا أنها حاولت الاستثمار السياسي في هذه الأزمة؛ حيث ألقى بوتين باللوم على السياسات التخريبية الأمريكية في الشرق الأوسط واعتبرها السبب الرئيسي في هذه الأزمات. ودعا الرئيس الروسي ووزير خارجيته سيرغي لافروف إلى اتباع نهج متوازن لحل النزاع وأدانا وقوع خسائر في صفوف المدنيين من كلا الجانبين.
بعد مرور ثلاثة أسابيع من عمليات الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل على قطاع غزة، زار وفد من حركة حماس روسيا وكان على رأس هذا الوفد نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق. ناقش الوفد الفلسطيني مع نظرائه الروس قضية إطلاق سراح بعض الأسرى الإسرائيليين الذين يحملون الجنسية الروسية، بالإضافة إلى قضية إجلاء مئات الروس الذين كانوا يقيمون في قطاع غزة. ويبدو أنّ الوفد الفلسطيني كان ماهراً في التعامل مع روسيا؛ حيث وصفها أبو مرزوق بالصديق المقرّب جداً، كما أكد أن حركة حماس ستفرج عن هؤلاء الأسرى بمجرد العثور عليهم.
وأما بالنسبة لإسرائيل فتعتبر هذه الزيارة انتصاراً سياسياً لحماس، ولهذا فقد كانت ردت فعلها تجاه هذه الزيارة مبالغاً فيها للغاية؛ حيث وصفتها "بالمؤسفة"، ليأتيها الرد الروسي قاطعاً هذه المرة بأن روسيا تحاول إبقاء قنوات اتصال مع كافة الأطراف.
مكاسب موازية
في الحقيقة إلى جانب استراتيجية الحياد تجاه الصراعات، تحاول روسيا صرف الأنظار عن حربها على أوكرانيا؛ حيث وجد الروس في الحرب على غزة فرصة مواتية للتخلص من الحملة الإعلامية والدعائية الغربية ضدها. وعلى الجانب الأخر، فقد حشدت روسيا جميع أدوات حربها الناعمة ووسائل إعلامها لتصوير أفول الولايات المتحدة وضعفها وسياساتها غير المعقولة في إشعال النزاعات. وحاولت كذلك إقناع العالم بأنّ الولايات المتحدة غير قادرة على حماية أقرب حلفائها، ونقصد هنا إسرائيل.
كما أنّ الرواية الروسية المعقدة لجأت إلى ادعاءات هامة مثل أن الأسلحة الغربية التي خصصت لأوكرانيا تم إرسالها إلى إسرائيل؛ لتقوم الأخيرة بقتل الفلسطينيين بهذه الأسلحة. وتهدف هذه الرواية إلى نزع أي تعاطف عربي مع أوكرانيا واعتبارها شريكة في الجريمة البشعة بحق الشعب الفلسطيني.
منذ بدء الحرب على أوكرانيا، يحاول الروس خلق أجواء فوضوية ورمادية لأمريكا في الشرق الأوسط من أجل تقليل الضغط عليها. وفي هذا الإطار فإن الاستقرار والتقارب الاقتصادي الذي ترغب الولايات المتحدة بتحقيقه في غرب آسيا يخالف المصالح الروسية، إذ تنظر روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط كمكان مهم لإبقاء الولايات المتحدة منشغلة وبعيدة عن التفرغ لشرق أوروبا، المنطقة التي تحاول روسيا تحقيق أكبر قدر ممكن من النفوذ هناك. ولذلك فإن فرضية تصاعد الصراع بين حماس والكيان الإسرائيلي وتورط الولايات المتحدة وأوروبا فيه يمكن أن تكون بارزة في أذهان قادة الكرملين.
لقد تسببت الحرب على أوكرانيا بخسارة نسبية لروسيا لدورها في الشرق الأوسط ومنطقة القوقاز؛ حيث تراجع نفوذها في سوريا لصالح إيران بسبب تقليص عدد القوات المشاركة هناك وسحب أنظمة الدفاع الجوي والطائرات الحربية من سوريا لاستخدامها على الجبهة الأوكرانية. وكذلك أظهر الاستيلاء الأذربيجاني السريع على منطقة كراباخ تراجع التحالف الروسي-الأرميني وتوتر هذه العلاقات بسبب الموقف الحيادي لروسيا تجاه هذه الأزمة. وبناء على جميع ما تقدم، تنظر روسيا اليوم إلى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كفرصة مناسبة لصرف الأنظار عن الأزمة الأوكرانية وفرصة أخرى لعودة الدور الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط، والعمل على تصوير الدور الأمريكي بأنه دور مخرب وداعٍ للحروب وغير قادر على خلق فرص للسلام والتنمية. وهذا بالضبط ما يدفع الكرملين إلى قيادة جهود دبلوماسية في الأمم المتحدة من جهة، واستقبال قادة حركة المقاومة حماس في موسكو.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.