تُسيطر على الرأي العام العربي والعالمي صورٌ نمطية وأفكار قديمة، ساهمت في جعل إسرائيل في الذهن السياسي العام كقلعة حصينة لا تُخترق أسوارها، وقد بُنيت تلك الصورة نتيجة الهزائم التي لحقت بالجيوش العربية في بعض حروبها مع إسرائيل، واستثمار الأخيرة لإدامة تفوقها العسكري والأمني والتقني، والذي ليس له نظير في الشرق الأوسط.
ذلك أن إسرائيل التي قامت على أراضي فلسطين التاريخية بقرار بريطاني وتواطؤ غربي عام 1948، ظلّت محكومة بهواجس الخطر الوجودي حتى يومنا هذا، وقد أدرك حكّامها في وقت مبكّر أن التغلّب على تلك الهواجس، يتطلّب ضمانات حصرية تجعل فكرة الحفاظ على البقاء معقولة في محيط عربي أثارت استعداءه باحتلالها أراضي تنتمي إليه، لذا، فإن الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية التي صاغها ديفيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء لإسرائيل ارتكزت على بناء جيش قوي متعدد الجبهات وحديث التسلّح، والدخول في تحالفات دولية تدعم وجود الاحتلال الإسرائيلي وقدراته العسكرية، فلا غرابة حين نشاهد الولايات المتحدة الأمريكية توفّر غطاء سياسياً وعسكرياً وحقوقياً وإعلامياً لحليفتها إسرائيل، تجلّت ملامحه بوضوح في العدوان الإسرائيلي المستمر (حتى كتابة هذه السطور) على غزة.
حين افتتحت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عملية طوفان الأقصى، تناقلت وكالات الأنباء العالمية نبأ اختراق مقاتلي المقاومة جداراً حديدياً ذكياً شيّدته سلطات الاحتلال الإسرائيلي على طول حدودها مع القطاع، وتلا ذلك عمليّات نوعية نفّذتها فصائل المقاومة، بتكتيكات صادمة للأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. وفي الحقيقة، إن ذلك الاختراق تسبّب في حدوث هزّة في المخيال السياسي العربي والغربي، الذي استقرت فيه صورة إسرائيل المتفوقة أمنياً وعسكرياً عقوداً طويلة.
لقد فشلت النظرية الوقائية الأمنية التي كُلّفت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي بالعمل وفق بنودها، ومهّد ذلك الفشل الطريق أمام فصائل المقاومة لتنفيذ عمليات غير مسبوقة في العمق الإسرائيلي (الأراضي المحتلة)، ورغم أن إسرائيل فوجئت بعملية المقاومة، وردّت بقصف جوي عنيف أدى إلى استشهاد ما يصل إلى أكثر من 8300 مدني حتى اللحظة، فإن دول الغرب تهافتت لدعمها لأسباب ذات صلة بنفوذها في الشرق الأوسط.
لنعد إلى الوراء قليلاً، لقد أوجدت دول الغرب إسرائيل، ولم تكتفِ بذلك، بل نقلت إليها عوامل التنمية، وأعطتها مقومات البقاء، وجعلت منها وكيلاً لمصالحها في المنطقة، وما يؤكد ذلك، أن بريطانيا قررت تأسيسها في البداية، وفرنسا ساهمت في بناء مفاعلاتها النووية التي تؤمن قدرتها على الردع الإقليمي، وكذلك ألمانيا تدعمها اقتصادياً وعسكرياً، والولايات المتحدة قال رئيسها جو بايدن مؤخراً "لو لم تكن هناك إسرائيل في الوجود لعملنا على إقامتها، وسنستمر في الوقوف بجانبها".
تلك الشواهد لا تفشل في تأكيد حقيقة أن الاحتلال الإسرائيلي يؤدي وظيفة جيواستراتيجية تخدم من خلالها مصالح دول الغرب، وتدعم سيطرتها في المنطقة، لذا، فإن المقاومة الفلسطينية عندما فرضت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، صراعاً لا يجيد الاحتلال اللعب وفق قواعده، شعرت واشنطن ودول الغرب أن وكيلها الإقليمي قد يخلّ بوظائفه الاستراتيجية، فتقاطرَ زعماء تلك الدول إلى تل أبيب سريعاً لإظهار الدعم، ونقلوا بوارجهم العملاقة للبحر الأبيض المتوسط لتأسيس معادلة ردع ظرفية تحول دون اشتعال جبهات إضافية تهدد نفوذهم في المنطقة.
رغم ذلك، يدرك الاحتلال الإسرائيلي جيداً، أنه لا يقاتل جيشاً نظامياً تتموضع قواته في قواعد أو معسكرات يعرف مواقعها الجغرافية ويمكن قصفها من الجو بسهولة، مثلما فعل في حرب 1967، وإنما يقاتل تنظيمات غير دولانية، تتقن حرب العصابات وتحارب في ميدانها، وهو ما يعقّد محاولات الاحتلال رد الاعتبار لمفهوم الردع الإسرائيلي الذي تعرّض لانتكاسة كبيرة، ولهذا، فإن القادة في إسرائيل يدركون أن هدف القضاء على حركة حماس ونزع قدراتها القتالية ليس واقعياً، خصوصاً أنها ما زالت تُمسك بخيوط الحرب، لذا، فإنهم يعتمدون بصورة أساسية على سلاح الجو لتدمير البنية التحتية في غزة، ونزع مقومات الحياة فيها، لإجبار ساكنيها على النزوح داخل القطاع، ولزج حركة حماس في مواجهة لاحقة مع المجتمع الذي تحكمه في غزة بعد توقف الحرب التي يسعى رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي نتنياهو لإطالتها؛ هرباً من الاستحقاقات التي تطارده.
أخيراً، أياً كانت النتيجة التي ستنتهي إليها الحرب المستمرة على غزة، فإن مربّع الفشل الأمني والاستخباري والعسكري والسياسي في إسرائيل الذي كشفت عنه عمليّة طوفان الأقصى، سُرعان ما محا صورة إسرائيل ذات اليقظة الأمنية الدائمة، والتأهّب العسكري المسنود بمختلف الروافع التقنية الحديثة، والذي راهنت عليه أنظمة عربية للتصدي لأخطار لم تعد إسرائيل تشملها.
تلك الصورة التي محاها طوفان الأقصى، أعقبها ما يجب أن يسبق كنس الاحتلال الإسرائيلي وتحرير فلسطين، ألا وهو تحرير المخيال السياسي العربي الذي حُوصر عقوداً إثر اتفاقيات السلام مع إسرائيل، القديمة منها والجديدة، والتي تأكّد إخفاقها التام في استبدال التمثّلات التاريخية والمنطقية لصورة إسرائيل المُستعمِرة والقائمة بالاحتلال في الذهنية العربية، بأخرى ترتكز على مهادنتها وقبولها أو التحالف معها والخضوع لها. السادس والسابع من أكتوبر/تشرين الأول، ليسا مجرد يومين متتاليين، وإنما مرحلتين، لكل منهما ما بعده، وسيكتب ذلك التاريخ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.