حملت الأعوام الأخيرة عدة متغيرات في ساحة السياسة العالمية، تحالفات انهارت وأخرى جديدة عقدت، حروب وثورات اشتعلت، هذا بجانب توالي الأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، كلها عوامل أثرت وما زالت تؤثر على شكل النظام العالمي أحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
إلا أنه، ومع تزايد النفوذ الروسي وتقاربه مع قوى أخرى، مثل الصين، أصبحت كل الأطراف في الساحة الدولية، على قناعة تامة بقرب نهاية الأحادية القطبية وانتقال العالم إلى تعددية قطبية تكون فيه الكلمة العليا موزعة بين عدد من القوى الدولية، لا في قوة واحدة مهيمنة فقط على أغلب القرارات المصيرية في العالم كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية.
تعد روسيا واحدة من القوى العالمية البارزة الجديدة التي تسعى لحجز حصتها من تزعم المشهد السياسي العالمي. ولم لا وهي في الماضي القريب، كانت لاعباً رئيسياً إلى جانب الولايات المتحدة حين كان النظام العالمي ثنائي القطب، والذي تحول من بعدها لقطب واحد بانهيار الاتحاد السوفييتي. وبالطبع لا يمكن غض البصر عن الصين التي تهدد بقوة الإمبراطورية الأمريكية على جميع المستويات.
إلا أن دخول روسيا في الحرب مع أوكرانيا وعدم تمكنها من حسمها، جعل الإدارة الأمريكية تكسب مزيداً من الوقت لمراجعة أوراقها بهدف الحفاظ على هيمنتها على النظام العالمي. وهذا تجلّى من خلال عدة قرارات؛ أبرزها التقارب مع إيران ورفع تجميد جزء من أموالها المحجوزة لدى البنوك الدولية. بالإضافة إلى عملية تبادل الأسرى التي جرت بين الولايات المتحدة وإيران.
وقبل ذلك، لعب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دوراً كبيراً في تطبيع العلاقات بين دول عربية وإسرائيل، وما أطلق عليه "صفقة القرن". كل تلك الجهود كانت تستهدف تهدئة المنطقة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، من خلال حل القضية الفلسطينية ونزاع الصحراء المغربية، بالإضافة إلى تحييد إيران في باقي صراعات المنطقة.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ليربك يوم 7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حسابات الإدارة الأمريكية ومعها كل الدول الغربية، فمنذ البداية الأولى لعملية "طوفان الأقصى" التي شنتها حركة المقاومة "حماس" ضد الاحتلال الإسرائيلي، هرعت عواصم الدول الغربية لتقديم دعم مادي ومعنوي غير مشروط لإسرائيل، وكانت في مقدمتها واشنطن التي أرسلت حاملة الطائرات جيرالد فورد، وكذلك برلين التي أرسلت طائرتين مسيرتين لمساعدة تل أبيب في حربها ضد غزة، ما أثّر بمرور الأيام وطول المعركة على الدعم المقدم من طرف دول حلف الناتو إلى أوكرانيا في حربها مع روسيا، إذ تعتزم وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" إرسال مئات الآلاف من قذائف المدفعية من عيار 155 مليمتراً لإسرائيل كانت مخصصة في البداية إلى أوكرانيا من مخزونات الطوارئ الأمريكية.
وهو ما عبّر عنه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فأبدى خشيته من أن تؤدي الحرب في قطاع غزة إلى "حرف أنظار" المجتمع الدولي عن الغزو الروسي لبلاده، متّهماً موسكو بتوفير دعم للحركة الفلسطينية. وهذا ما عبّر عنه أيضاً، الرئيس البولندي أندريه دودا، الذي قررت بلاده إرسال وحدة عسكرية وطائرات لإجلاء مواطنيها من إسرائيل، والذي اعترف بأن ما يحدث مفيد لموسكو، حيث يرى أن الدعم العسكري الموجه إلى كييف سوف يتحول إلى تل أبيب، وهو نفس الموقف الذي عبّر عنه أغلب الساسة الغربيين.
إن انصراف أنظار العالم إلى ما يقع في غزة يجعل موسكو أكثر أريحية، ويعزّز حظوظها في الحرب ضد كييف، وهو ما يبرر تضامن روسيا بجانب قطاع غزة وحماس في حربهما ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما ترجمته موسكو بموقفها في مجلس الأمن ودعمها لحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم وتأسيس دولتهم المستقلة.
بالنظر لتلك القراءات نرى أن "طوفان الأقصى" قد خلط بالفعل كل الأوراق السياسية والعسكرية، ولا يزال يعيد ترتيبها وتشكيلها في انتظار ما سوف يحمل قادم الأيام من مستجدات، سواء في الساحة الفلسطينية أم الأوكرانية، والأكيد الآن أن العالم بعد يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول ليس كما قبله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.