شهد قطاع غزة في السابع من أكتوبر هجمات جوية مكثفة وغير مسبوقة، أدت إلى قتل وإصابة آلاف من الفلسطينيين من الأطفال والنساء والشيوخ، وإلى استهداف البنايات والمرافق المحمية دولياً، على غرار المستشفيات والمحال التجارية ودور العبادة وغيرها، وقد سبق الهجوم الإسرائيلي على القطاع ذيوع حملة إعلامية شرسة عبر وسائل الإعلام الغربي، مصدرها روايات إسرائيلية هدفها شيطنة أفراد فصائل المقاومة وقاطني القطاع من المدنيين، أضف إلى ذلك ما تبعه من إطلاق لأوصاف من قِبل مسؤولين إسرائيليين، تصف الفلسطينيين بـ"الحيوانات والوحوش البشرية"، الأمر الذي مهَّد للقيام بحملات انتقام واسعة، أدت إلى عمليات قتل جماعي، واستهداف للمدنيين وللبنى التحتية، كما أخضعت الفلسطينيين عمداً في القطاع لظروف معيشية يُراد بها التهجير الكلي لأكثر من 2.2 مليون فلسطيني.
إن ممارسات إسرائيل في القطاع خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة تستدعي الوقوف والنظر في حيثيات الحالة والعمل على تكييفها جنائياً، وذلك من دون التقليل من حجم جرائم إسرائيل المستمرة خلال عشرات السنوات ضد الشعب الفلسطيني، والتي تضمّ دون شك لوتيرة متصاعدة لأفعال تكتسي وصف الجرائم الدولية الأشد خطورة في منظور القانون الدولي، لاسيما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كل تلك الانتهاكات المستمرة لن تكون محل دراستنا في هذا المقام، وإنما سنخص بالبحث مدى توفر عناصر جريمة "الإبادة الجماعية" في الانتهاكات الجسيمة الجارية في غزة، عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
"الإبادة الجماعية" في القانون الدولي العام
يجد تجريم "الإبادة الجماعية" أساسه في القانون الدولي العرفي قبيل إبرام اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها سنة 1948، وتعدّ القاعدة الدولية العرفية للتصدي لجريمة الإبادة الجماعية من القواعد المعترف بها (Jus cogens)، والملزمة لجميع الدول (erga omnes). وجاءت اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها بعد ذلك لتصبح حجر الزاوية ضمن نصوص الاتفاقية الجماعية للتصدي لجريمة الإبادة الجماعية، وغايتها تجنيب العالم ويلات الحروب، لاسيما تلك التي ترتبت عن الحربين العالميتين، وما شهدتاه من انتهاكات تفوق الخيال، حيث حملت الاتفاقية تفصيلاً وتحديداً للجريمة بشكل لم يسبق له مثيل. ودخلت حيز النفاذ في 12 يناير 1951، وتضم الاتفاقية إلى حين تدوين هذه الأسطر 153 دولة من بينها فلسطين، والاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية.
واشتملت أنظمة المحاكم الدولية على غرار المحكمتين المؤقتتين الشهيرتين ليوغسلافيا سابقاً وروندا، إلى جانب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نفس تعريف جريمة "الإبادة الجماعية"، الوارد في المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948، حيث تم تعريفها بأنها: "أي من الأفعال التالية، المرتكبة قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه:
– قتل أعضاء من الجماعة،
– إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة،
– إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً،
– فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة،
– نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى".
ويستخلص من تعريف جريمة الإبادة الجماعية في الاتفاقية ضرورة توفر ركنين أساسيين، ألا وهما: "مجموعة الأفعال" المحددة حصراً، وهي الأفعال الخمسة الوارد النص عليها في نص المادة الثانية، إلى جانب حضور "القصد"، ويجب أن ينطوي القصد على وجود نية القيام بفعل التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية. بحيث يتوخى من مباشرة أحد، بعض أو جميع هذه الأفعال تحقق غاية التدمير.
الحصار، التهجير والقتل الجماعي.. أدوات الاحتلال لتصفية وجود الفلسطينيين في غزة
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو"، في خطاب يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول "حالة الحرب"، معرباً عن نية تطهير تجمعات الفلسطينيين في القطاع، حيث تتغلغل "الجماعات الإرهابية"، على حد وصفه، وأقرّ بأن "العدو سيدفع الثمن بشكل لم يسبق له مثيل"، وأمر بالإخلاء الفوري للقطاع، برغم الحصار المسلط عليه منذ ستة عشر عاماً.
تبع الإعلان عن الإخلاء الإجباري للمدنيين من القطاع إصدار وزير الطاقة "إسرائيل كاتز" أمراً بوقف تزويد القطاع بالكهرباء، كما تمّ قطع المياه ومنع الوقود عن القطاع، لِتليه مباشرة الضربات الجوية التي نتج عنها تدمير عدة بيوت وعمارات سكنية بشكل كلي ومركّز، نتج عنها في اليوم الأول للهجوم مقتل 232 فلسطينياً وإصابة 1700 آخرين، وتهجير 20.000 نحو الجنوب، استقر أغلبهم في مدارس الأونروا في غزة.
في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي "يوآف غالانت" بحصار كلي على القطاع بغية خلق ظروف قاسية، مع استعماله لأوصاف حاطّة بالكرامة الإنسانية، في نعته للمواطنين الفلسطينيين في غزة، حيث جاء على لسانه "لن يكون هناك كهرباء، ولا غذاء، ولا وقود، كل شيء يغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية، ويجب أن نتصرف وفقاً لذلك"، ولم يتوقف الأمر عند حد تسليط العقاب الجماعي على قاطني القطاع، بل تعداه إلى التهديد بالقصف لكل من يوصل مساعدات إنسانية إلى غزة. وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك، إذ تم قصف معبر رفح يومي التاسع والعاشر من أكتوبر، لمنع التحركات من وإلى غزة.
بحلول اليوم نفسه أودى القصف بحياة أكثر من 500 فلسطيني، من بينهم 91 طفلاً، حيث استهدفت الضربات الإسرائيلية مخيمات اللاجئين في الشاطئ وجباليا، موديةً بحياة 50 فلسطينياً، وإصابة 120 آخرين.
في 10 أكتوبر ، جاء على لسان المتحدث باسم القوات الإسرائيلية، دانيال هغاري، أن القوات الإسرائيلية قد ألقت مئات من الأطنان من القنابل على غزة، وأن تركيز الهجمات هدفه إلحاق الخسائر وليس الدقة في توجيه الضربات. كما صرح اللواء "غسان عليان"، منسق عمليات الحكومة في الأراضي المحتلة هو الآخر، في تسجيل يقول فيه إن "حماس" قد فتحت أبواب جهنم على غزة، واستعمل هو الآخر وصف "الحيوانات البشرية".
تواصلت حدة الهجوم، في يوم 12 أكتوبر، بوتيرة متصاعدة، حيث أمهل الجيش الإسرائيلي في هذا اليوم جميع الموجودين في غزة، من مواطنين وموظفين أمميين، 24 ساعة للنزوح إلى جنوب غزة، وبلغ عدد الضحايا بحلول هذا اليوم 1500، من بينهم 500 طفل و276 امرأة و6612 جريحاً، حيث قُصفت 88 مدرسة، من بينها 18 مدرسة تابعة للأونروا، وقُتل 12 موظفاً من المنظمة نفسها، كما استُهدفت سيارات الإسعاف وطواقمها، وسُجل استهداف 34 منشأة استشفائية في القطاع. كما تم قصف مرافق المياه والصرف الصحي المستعملة من قبل مليون فلسطيني في القطاع.
أبان ممثل الجيش الإسرائيلي، في 13 أكتوبر، صراحةً عن عدم اكتراثه للأضرار والمعاناة الناجمة عن الحصار والقصف المستمر، حيث جاء على لسانه: "لن نسمح بمرور أي شيء إلى القطاع يدعم قدرات "حماس"، ولو كان ذلك على حساب احتياجات الفلسطينيين".
وقد تجاوز عدد الضحايا خلال هذا اليوم 1843، و7088 جريحاً و423.000 مهجر، وكانت إسرائيل قد أعلنت "طريق صلاح الدين" ممراً آمناً للسماح للمدنيين بالنزوح نحو الجنوب، لتفاجئ الجميع بعد ذلك بتوجيه ضربات نحو ثلاثة مواكب سلكت الممر نفسه، وكانت متوجهة نحو الجنوب، ما أدى إلى قتل 70 فلسطينياً أغلبهم من الأطفال والنساء.
في السابع عشر من أكتوبر، استهدفت إسرائيل المستشفى المعمداني في حي الزيتون جنوب غزة، ما أدى إلى مقتل 500 فلسطيني وإصابة المئات، وحاولت إسرائيل بعد ذلك التنصل من مسؤوليتها، متهمةً أحد فصائل المقاومة، لكن ريثما تكشفت الحقائق، بعد الاستقصاءات التي أجرتها عدّة جهات، وأكدت بطلان الرواية الإسرائيلية، لا سميا بعدما اتضح عدم صدق الأدلة التي قدمها الجيش الإسرائيلي.
وقد تبع كل هذه الأحداث سيل عارم من الأخبار الزائفة والبروباغندا الإعلامية الإسرائيلية المضللة، التي عمدت إلى تزييف الوقائع ونشر الأكاذيب، بغية تهيئة الرأي العام في إسرائيل وخارجها، للتسويق لحربها الكاسحة على فلسطينيي القطاع، وكذا من أجل تبرير هجماتها غير المتناسبة مع قوى المقاومة، مبررة ذلك بحجة الدفاع عن النفس.
كما لم يخفِ السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة "داني أيالون" في حوار أجراه مع قناة "الجزيرة" فكرة تهجير فلسطينيي غزة إلى صحراء سيناء في مصر، مضيفاً أن إسرائيل والمجتمع الدولي سيسهرون على إقامة البنى الأساسية للحياة، وتوفير كل المرافق الأساسية لاستقبال الفلسطينيين في تلك المنطقة.
التكييف القانوني للانتهاكات الخطيرة الجارية في غزة
تعكس الهجمات التدميرية الكبرى والممنهجة للاحتلال على الفلسطينيين في قطاع غزة إرادة اجتثاث جماعة قومية ودينية من أراضيها، وذلك بواسطة أفعال القتل الجماعي، وإلحاق الأذى الجسدي الخطير بأفراد هذه الجماعة، إلى جانب إخضاعها، عمداً، لظروف معيشية يراد بها التدمير الكلي والمرحلي، حيث أشارت تصريحات موظفي الحكومة والجيش الإسرائيليين، التي سبقت ورافقت العمليات الهجومية على قطاع غزة، عقب 7 أكتوبر، إلى وجود نية التصفية والتدمير والتهجير من وراء كل العمليات العسكرية التي تشهدها غزة.
ويمكن استنتاج وجود إرادة التدمير والتصفية من التصاريح المختلفة الصادرة عن مسؤولي الاحتلال كوصف الفلسطينيين في غزة بـ "الإرهابيين، والحيوانات والوحوش البشرية"، وذلك برغم وجود بعض التصاريح من بعض مسؤولي الاحتلال التي تشير إلى أن "حماس" هي المستهدفة، بيد أن الهجمات الجارية تؤكد بما لا يدع أي مجال للشك أن المستهدف بالأعمال العدائية هو الشعب الفلسطيني، وتَأكّد ذلك بعد الأعمال العدائية، ممثلة في الحصار، بغية خلق ظروف حياة تفضي إلى التدمير الكلي أو الجزئي للوجود الفلسطيني في القطاع، ومنع وصول الأغذية والمياه والكهرباء والوقود، وما أنتجه ذلك من شح في موارد تزويد المستشفيات، لاسيما من الكهرباء والوقود، أضِف إلى ذلك تكثيف الضربات الصاروخية التي لم تسلم منها الأطقم الطبية وسيارات الإسعاف والمنشآت الصحية.
كما لم تميز العمليات العسكرية الإسرائيلية بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية، إذ كان هدفها الأساسي هو إلحاق أكبر قدر من الدمار، عوض تقصي الدقة في توجيه الضربات، مثلما أقر ممثل الجيش الإسرائيلي، وذلك ما أدى إلى سقوط آلاف الضحايا، وتدمير للبنى التحتية الأساسية، بما فيها الوحدات السكنية، والمدارس، والمساجد، والكنائس، والهياكل الحساسة، وما زدا الطين بلة إصدار أمر الإخلاء، الذي أدى إلى انتشار خوف وهلع كبيرين في أوساط المدنيين.
والأكثر من ذلك أن الأماكن التي كان مفترضاً أن تحظى بالحماية لم تعد كذلك، وذلك بعدما استباح الجيش الإسرائيلي حرمتها، ضارباً عرض الحائط كل الأعراف والقوانين، إذ أصبح يوجه ضرباته صوبها على غرار المستشفيات والمرافق المختلفة، أضف إلى ذلك حادثة قصف ممر "شارع صلاح الدين"، التي أتت مناقضة لإعلان الاحتلال بتأمينه كممر للإجلاء، ما أدى إلى إلحاق أذى نفسي كبير في أوساط قاطني غزة، بعد أن تأكد لدى الجميع أن غزة أصبحت مكاناً ينعدم فيه الأمان.
المسؤوليات الجنائية للقادة الإسرائيليين وآليات المتابعة الدولية
يُتابع القانون الجنائي الدولي الأفراد الضالعين في ارتكاب الجرائم الدولية الأشد خطورة، على غرار الإبادة الجماعية، سواء أكانوا مدنيين أو عسكريين، رؤساء أو مرؤوسين، وبغضِّ النظر عن رتبهم أو مسؤولياتهم أو ما يتمتعون به من حصانة. واستناداً للعناصر الماثلة بين أيدينا، فإن هنالك عناصر ملموسة، توافق التوصيف الجنائي لجريمة الإبادة الجماعية أو الشروع فيها على الأقل، وذلك ما قد يجعل مسؤولي الحكومة والجيش ومرؤوسيهم في إسرائيل تحت طائلة الاتهام والمتابعة الجنائية الدولية، نتيجة مسؤولياتهم المترتبة عن انتهاكات تُكيف على أنها "أفعال ارتكاب أو شروع في ارتكاب الإبادة الجماعية"، وهي النتيجة نفسها التي خلصت إليها عدّة تقارير، على غرار تقرير مركز الحقوق الدستورية.
وسبق أن افتتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً بخصوص الانتهاكات المسجلة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، بحكم انضمام دولة فلسطين مطلع 2015 لنظام المحكمة، بيد أن التحقيقات لم تفضِ إلى أية نتائج إلى حين تدوين هذه الأسطر، لتبقى إسرائيل في النهاية مصرّة على مواصلة سياساتها التوسعية التدميرية على حساب الشعب الفلسطيني، على مرأى ومسمع العالم أجمع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.