في الأسابيع الأخيرة، صدمت هجمات حماس، التي بدأت كحركة مقاومة ضد العنف الإسرائيلي المنهجي طويل الأمد والتوسع الإقليمي على حساب فلسطين، السلطات الإسرائيلية. ومع ذلك، تعافت إسرائيل بسرعة وبدأت في مهاجمة غزة بخطاب شديد القسوة، وهناك حديث عن أن العملية الإسرائيلية المضادة، التي لا تعترف بأي قواعد للقانون الدولي، ستحل محلها عملية برية ضد غزة. ومن ناحية أخرى، كانت ردة فعل المجتمع الدولي إزاء العنف غير المتناسب الذي تمارسه إسرائيل على أجندة العالم الإسلامي لبعض الوقت. إن الدعم غير المشروط الذي يقدمه الزعماء الغربيون لإسرائيل، وإعلان حماس منظمة إرهابية، وحقيقة أن وسائل الإعلام الغربية تدعم وتستخدم هذه اللغة المشتركة علناً، كل هذا كان سبباً في استفزاز ردود فعل كبرى، وخاصة في مجتمعات العالم الإسلامي. في مثل هذا الوضع، عندما نحاول استخلاص نتيجة من خلال الأخذ في الاعتبار الوضع الحالي في العالم والتوازنات الدولية، سيكون من الأفضل أن نركز اهتمامنا على الصين، التي تتمتع بنفوذ يغير قواعد اللعبة، والتي يثير موقفها الفضول، على عكس الغرب الذي نعرف موقفه بالتأكيد.
الصين تقلب الموازين في الشرق الأوسط
مع سياسات الإصلاح الاقتصادي التي اتبعتها بعد عام 1978، دخلت الصين فترة من الإنتاج والنمو الجاد. ومن الطبيعي أن الحاجة إلى المواد الخام والموارد دفعت الصين إلى إقامة علاقات أوثق، خاصة مع الدول المصدرة للنفط. وفي عام 1999، وقّعت الصين "اتفاقية التعاون البترولي الاستراتيجي" مع المملكة السعودية، وبذلك دخلت السوق المحلية لدول الخليج وحصلت في الوقت نفسه على إذن للعمل في مجال النفط السعودي. وانعكس الشرق الأوسط والخليج العربي، اللذان أصبح لهما الآن معنى استراتيجي كبير بالنسبة للصين، في تحركات السياسة الخارجية للصين. ومنذ إصلاحها الاقتصادي، تمكنت الصين من تعظيم مصالحها من خلال تبني نهج تصالحي من دون الانحياز إلى أي طرف في أي صراع في المنطقة.
ولن يكون من الخطأ القول إن علاقات الصين مع الدول الإسلامية أصبحت في الآونة الأخيرة أكثر واقعية مقارنة بالفترة السابقة. وعلى وجه الخصوص، كان لزيارة شي جين بينغ إلى المملكة السعودية في عام 2022 صدى في جميع أنحاء العالم. وبالإضافة إلى اتصالاته الثنائية، حضر جين بينغ قمة الصين والدول العربية وقمة مجلس التعاون الصيني الخليجي، ووقّع اتفاقيات مع المملكة السعودية في العديد من المجالات، مثل الطاقة النووية والزراعة والفضاء. واللافت أيضاً أن الصين أعربت أيضاً عن استعدادها للتعاون مع المملكة السعودية في مجالي الدفاع والأمن. وكان هذا بديلاً ثانياً لبلد ظل لفترة طويلة تحت المظلة الأمنية الأمريكية. وعقب هذه الزيارة مباشرة، زار نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، هو تشين هوا، طهران ووقَّع عدة اتفاقيات مع إيران في إطار "اتفاقية التعاون الشامل بين الصين وإيران لمدة 25 عاماً". وبعد سلسلة من الاتفاقيات المنفصلة مع إيران والمملكة السعودية، اللتين كانتا في حالة حرب باردة لفترة طويلة، كان من المفاجئ، ولكن ليس غير المتوقع، أنه في مارس/آذار 2022، جلبت الصين هذين البلدين إلى طاولة المفاوضات وبدأت فترة من " انفراج" بينهما. وبهذا الاتفاق، لم تعلن الصين عن وجودها ونفوذها في الشرق الأوسط أمام العالم أجمع فحسب، بل أظهرت أيضاً أنها تريد الاستقرار في منطقة ذات أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة لها. وفي الأشهر الأخيرة، استضافت الصين زعيم النظام السوري بشار الأسد وأظهرت رغبتها في إرساء الاستقرار في سوريا. ومن خلال الجمع بين قوتها الاقتصادية ونجاح لغتها الدبلوماسية، تواصل الصين تأكيد نفوذها (وبالتالي حماية مصالحها) في المنطقة.
ومن الممكن أن نعزو النجاحات التي حققتها الصين، ليس فقط إلى قدرات البلاد الخاصة، بل وأيضاً إلى أن الولايات المتحدة كانت "تتصرف بفظاظة" في المنطقة لسنوات عديدة. وفي بعض الأحيان، تزيد الدبلوماسية الأحادية والقسرية التي تمارسها الولايات المتحدة تجاه دول المنطقة من جاذبية بديل مثل الصين بالنسبة لدول المنطقة. إن عدم امتثال المملكة السعودية وبعض دول الخليج للعقوبات المفروضة على روسيا في أعقاب حرب أوكرانيا، والحفاظ على علاقاتها مع روسيا واتخاذ قرارات في أوبك+ ضد رغبة الولايات المتحدة، دليل على وجود ديناميكية علاقة مختلفة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة.
موقف الصين من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
في الحروب الفلسطينية الإسرائيلية التي دارت رحاها خلال العقدين الماضيين، لا تزال لغة الصين الروتينية والخطابية المعتادة مستمرة حتى يومنا هذا. وكما ذكرنا أعلاه، فإن السياسة الخارجية للصين لا تهدف إلى التورط في الصراعات في المنطقة و تحقيق الاستقرار فيها بطريقة ما. ومع ذلك، فإن حياد الصين هو حياد نشط. موقف الصين في حرب أوكرانيا، والذي وصفه المحللون الغربيون في الغالب بأنه "حياد مؤيد لروسيا"، يمكن اعتباره اليوم "حياد مؤيد للفلسطينيين"، كما هو الحال في الصراعات الفلسطينية الإسرائيلية الأخرى. لنتذكر بإيجاز، في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عام 2008، فسرت الصين الهجمات الإسرائيلية على غزة على أنها "انتهاك للقانون الدولي واستهداف المدنيين الأبرياء"، وأعلنت أن الوفيات بين المدنيين أمر غير مقبول، وأنه يتعين على إسرائيل أن توقف هذه الهجمات على الفور.
من ناحية أخرى، في عام 2014، عندما هاجمت إسرائيل غزة، وصفت الصين، بطريقة مشابهة جداً، هذا الوضع بأنه غير مقبول وينتهك القانون الدولي، وذكرت أنه يجب وقف الهجوم فوراً وبدء الحوار لإقامة بيئة من السلام. إن البيان الرسمي الصيني بأن "الهجمات الإسرائيلية على غزة تشكل دليلاً على انتهاكات إسرائيل المنهجية للقانون الدولي" يلخص موقف الصين من هذا الصراع بشكل عام. وأخيراً، فإن التصريحات الرسمية الصينية التي أعقبت الاشتباكات التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول مباشرة، تشبه إلى حد كبير تلك التي صدرت في الأعوام السابقة. أولاً، في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وينبين عن "قلقه البالغ" إزاء الهجمات الإسرائيلية على فلسطين، قائلاً إن "هذه الهجمات تنتهك القانون الدولي وتستهدف المدنيين الأبرياء".
وبالمثل، ذكر وينبين أن "الصين تدعو إسرائيل إلى الوقف الفوري لهذه الهجمات واحترام القانون الدولي". وفي 8 أكتوبر/تشرين الأول، أصدرت وزارة الخارجية الصينية بياناً رسمياً جاء فيه أن "الصين تدعو إلى الوقف الفوري لهذه الهجمات وتدعو إلى بذل كل الجهود اللازمة للتوصل إلى تسوية سلمية". وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول، وصفت الوزارة الهجمات الإسرائيلية بأنها مأساة إنسانية، ودعت إسرائيل إلى "التوقف عن عرقلة وصول المساعدات الإنسانية". وأخيراً، أصدرت وزارة الخارجية الصينية، في 25 أكتوبر/تشرين الأول، بياناً قالت فيه: "إن الصين تدعو إلى الوقف الفوري لهذه الهجمات، وتدعو المجتمع الدولي إلى بذل جهود منسقة للتوصل إلى حل سلمي".
وفي الصراعات الثلاثة المختلفة المذكورة أعلاه، تكاد تصريحات الصين أن تتطابق. وهذا مؤشر واضح على النهج الذي تتبعه الصين في التعامل مع هذا الصراع: الحياد المؤيد للفلسطينيين. وأقول الحياد لأن الصين ظلت تدعو إسرائيل إلى وقف الهجمات، لكنها امتنعت عن اتخاذ أي خطوات ملموسة. ويرتبط السبب في ذلك بسياسات الصين الروتينية في الشرق الأوسط. وبدلاً من الانحياز إلى جانب واحد (وبالتالي كسب عداوة طرف آخر)، تسعى الصين إلى تثبيت استقرار الوضع في أسرع وقت ممكن. وفي هذه المرحلة، أود أن أستخدم كلمة الاستقرار بدلاً من السلام، لأن تحقيق الاستقرار في المنطقة أهم بالنسبة للصين من إحلال السلام. ولهذا السبب، فإنها تعمل بشكل أكثر كثافة على السياسة الخارجية في المواقف التي من شأنها زعزعة الاستقرار والوضع الراهن.
وبينما يتواصل الحديث عن تحول الصين لتكون القطب الثاني وكقوة عظمى بديلة للولايات المتحدة من جهة، من جهة أخرى، تتواصل تصريحات وتحركات الغرب، الذي يتصرف ككتلة واحدة تقريباً في انحيازٍ للجانب الإسرائيلي، ويثير تجاهلهم للعالم الإسلامي علامة استفهام أخرى. فهل يدفع هذا الموقف المتجانس من جانب الغرب العالم الإسلامي إلى الوقوف إلى جانب الصين؟
مخاوف هنتنغتون: هل يقترب العالم الإسلامي من الصين؟
يعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قضية بالغة الأهمية بالنسبة للعالم الإسلامي، من ناحية بسبب القمع المنهجي لمجتمع إسلامي، ومن ناحية أخرى لأن موقع الصراع يتمركز في القدس. وفي مواجهة مثل هذه القضية الحساسة، فإن الموقف الواضح المؤيد لإسرائيل من جانب الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، يطرح سؤالاً للعالم الإسلامي: هل هناك أي بديل آخر للغرب؟
بطبيعة الحال، إذا كانت هناك إجابة على هذا السؤال، فهي الصين. ولكنني في هذه المرحلة أود أن أواصل مقالتي بدراسة مفيدة ومهمة للغاية بالنسبة للغرب، وهي أطروحة صامويل هنتنغتون الشهيرة "صراع الحضارات"، والتي يعرفها الكثير منا.
إن أطروحة صراع الحضارات، التي كتبها هنتنغتون كمقالة في عام 1993 ولكنها أُعِدَّت ونُشِرَت في صورة كتاب في العام 1996، هي باختصار أطروحة تجادل بأن مصدر الصراع في العالم في السنوات القادمة ستكون ثقافية، وأنه رغم أن الدول ستظل هي الجهات الفاعلة الرئيسية في العلاقات الدولية، سوف تندلع الصراعات بين الحضارات. يصنف هنتنغتون حضارات العالم على أنها حضارات غربية، وكونفوشيوسية، ويابانيـة، وإسلامية، وهندية، وسلافية أرثوذكسية، ولاتينية، وأفريقية، ويعرِّف الدين باعتباره تمييزاً مهماً بين الحضارات. ووفقاً لهنتنغتون، بعد اختفاء الأيديولوجيات (أي بعد التسعينيات)، أصبح التمييز بين الحضارة الغربية، وخاصة بين الحضارات الأوروبية الأرثوذكسية والحضارة الإسلامية، أوضح.
ووفقاً لهنتنغتون أيضاً في كتابه صراع الحضارات، فإن الصدام الحقيقي للحضارات سوف يحدث على المدى الطويل بين الحضارات الغربية والحضارات الإسلامية والكونفوشيوسية. في الواقع، يمكننا القول إن هذه هي نقطة الانطلاق الرئيسية لهذه الأطروحة. لأن همَّ هنتنغتون الأكبر هو اندماج الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية (التي يعرفها بالحضارة الكونفوشيوسية). وهذا الاندماج هو أكبر تهديد للحضارة الغربية. ويرى هنتنغتون أن على الحضارة الغربية أن تتخذ إجراءات ضد هذا الوضع، ولهذا السبب يرى أنه من الضروري أن يجذب الغرب الحضارتين اللاتينية والأرثوذكسية، بما في ذلك روسيا واليابان، الأقرب إلى حضارته. ومن ناحية أخرى، وفقاً لهنتنغتون، يجب على الغرب استغلال الخلافات والصراعات بين الصين والدول الإسلامية، ودعم الجماعات في الحضارات الأخرى التي تتعاطف مع القيم والمصالح الغربية، وتعزيز المؤسسات الدولية التي تعكس وتضفي الشرعية على هذه القيم، و مواصلة دمج الدول غير الغربية في هذه المؤسسات.
إن الإجابة على أكبر مخاوف هنتنغتون، "هل سيقترب العالم الإسلامي من الصين؟"، كانت في الواقع واضحة لبعض الوقت، إذ يقترب العالم الإسلامي بالفعل من الصين. وحقيقة أن الصين لم تواجه الولايات المتحدة بشكل مباشر بعد، وخاصة في الشرق الأوسط، هي السبب الأكبر وراء عدم ظهور هذا الوضع بشكل ملموس. ومع مشاريع مبادرة الحزام والطريق والاستثمارات الأجنبية التي قامت بها في هذا السياق، تعد الصين قوة مؤثرة للغاية في أفريقيا وآسيا والآن في الشرق الأوسط. لكن بمجرد أن تتحول الاستثمارات الاقتصادية والمبادرات الدبلوماسية الصينية إلى قضايا الدفاع والأمن، فإن التقارب بين العالم الإسلامي والصين سوف يصبح واضحاً وضوح الشمس. وفي الشرق الأوسط، لا تزال المظلة الأمنية الأمريكية تشكل أهمية حيوية لبعض الدول. ومع ذلك، إذا تمكنت الصين من تحقيق هذه النية للمنطقة بأكملها، والتي ذكرها شين بينغ خلال زيارته للمملكة السعودية في عام 2022 وتوقع التعاون في مجال الأمن والدفاع، فقد تكون بديلاً مهماً للغاية للولايات المتحدة في المنطقة. ومن الواضح تماماً أنه في اللحظة التي تعتزم فيها الصين تولي موقع "القطب الثاني"، وهو ما لا ترغب في القيام به علناً بعد، فإن التوازن في المنطقة سوف يتغير بشكل كبير. وسيتعين على الصين في نهاية المطاف أن تقبل هذا الموقف الذي يدفعها النظام إليه.
وأخيراً، أود أن أذكر آراء ألكسندر دوغين، الخبير الاستراتيجي الروسي وأحد أهم مستشاري بوتين، والتي أعتبرها مهمة في بعض النواحي. يرى دوغين في الحرب الإسرائيلية الفلسطينية التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول فرصة. يعتقد أن الموقف الأحادي للغرب تجاه العالم الإسلامي يجب أن يدفع -وسوف يدفع- العالم الإسلامي نحو روسيا والصين. ويرى أن العالم الإسلامي هو أيضاً قطب في النظام الدولي، الذي يعتبره متعدد الأقطاب، وعلى العالم الإسلامي أن يدرك ذلك. ومن خلال تحليل دقيق، يرى دوغين أنه بمجرد أن يتحد العالم الإسلامي ويشكل قطباً، فإنه سيكون بالفعل معارضاً وجودياً للغرب. لذلك، بمجرد تجاوز تشرذم الحضارة الإسلامية، سوف يدفعها ذلك إلى جانب روسيا والصين.
ومن الواضح أن علاقات الصين مع العالم الإسلامي ستتعزز خلال الأعوام المقبلة. إن العلاقة الأحادية القائمة على المصلحة الذاتية، والتي طورها الغرب مع العالم الإسلامي، وخاصة بعد القرن العشرين، من شأنها أن تدفع العالم الإسلامي في هذا الاتجاه بمجرد ظهوره كبديل. ولذلك، فإن علاقة الصين المتمركزة على مبدأ "الربح للجانبين" ستكون ذات أهمية كبيرة للعالم الإسلامي، وهو أمر لم يعتد عليه العالم الإسلامي لفترة طويلة. لهذه الأسباب يمكن التنبؤ بأن مصلحة العالم الإسلامي، الذي بدأ بالفعل في التقرب من الصين، سوف تتحول نحو الشرق بمجرد أن تتولى الصين دور القطب الثاني ضد الولايات المتحدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.