قصتي مع الفيسبوك قصة عادية جداً، لشخص أمضى عمراً يزيد عن -عقد من الزمن- على هذه المنصة وعاش فيها حياة "طبيعية" انتهت بشكل مباغت، كموت فجأة إلكتروني؛ أو بتعبير أدق، نتيجة عملية قتل افتراضية..
في الواقع، كنت كائناً فيسبوكياً يعيش سعيداً في أرجاء هذه المنصة، وكنت مقتنعة جداً بفضائي الخاص الذي صنعته داخلها، راضية عن الطريقة التي تطور بها، مقتنعة بالشكل الذي يبدو عليه، ومتعلقة بكل ما يتضمنه. كنت أتصفح الموقع بشكل شبه يومي وأستعمله، كغيري، لأشارك وأستهلك الأفكار والاهتمامات والأخبار والصور والتفاهات أيضاً. فكنت أجد فيه متنفساً للتسلية ومصدراً للمعلومة ووسيلة للتعبير ومرصداً للمستجدات، كما كنت أستخدمه لمشاركة أحداث أو توثيق لحظات شكلت في النهاية رصيداً من الذكريات التي ارتبطت بي مباشرة أو بأشخاص آخرين.
بالحديث عن الأشخاص الآخرين.. كان لفيسبوك الفضل في تعرفي على مجموعة من الأشخاص الذين أضافوا لحياتي الإلكترونية، وأحياناً الواقعية أيضاً، الشيء الكثير؛ ليس بالضرورة من خلال المعرفة الشخصية والمحادثات الخاصة -التي لا تستهويني كثيراً، ولكن أيضاً من خلال متابعتهم أو التفاعل معهم داخل فضاءاتهم وعلى مستوى المجموعات والصفحات العامة.
باقتضاب، كنت ألج الفيسبوك أكثر من أي تطبيق آخر للتواصل الاجتماعي وكنت مرتبطة به وبما كنت أنشره فيه وبما كنت أتابعه من خلاله؛ صنعت من حسابي فيه حياة موازية، لن أبالغ بوصفها مهمة أهمية حياتي الحقيقية، ولن أستصغرها بالتحدث عنها وكأنها لم تكن تعني لي شيئاً، فكياني الفيسبوكي كان يمثل جزءاً مني ويعكس جانباً من شخصيتي، فضلاً عن أنه كان يخوض تجارب إلكترونية أثرت بعضها بشكل ملموس على حياتي الواقعية وأفكاري ومشاعري، بل حتى سلوكياتي.
استمررت أعيش حياتي الفيسبوكية في سلام، مستبعدة تماماً فكرة أن تنتهي بالشكل الذي انتهت به؛ إذ حظرت إدارة الفيسبوك حسابي لفترة ثم أغلقته نهائياً، لتمنعني بذلك من الاستمرار في التواجد به وتنتزع مني هويتي بشكل تام.
حدث الأمر بعد أن انخرطت في حملة الهاشتاغات التي تم إطلاقها لمناصرة فلسطين، على إثر اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على إخواننا الفلسطينيين. فبدأ الأمر بتلقي إشعارات بتوقيفي عن النشر أو التعليق في كل مرة أكرر استعمال الهاشتاغات المتداولة علاقة بالموضوع. بعد ذلك، أصبحت أتلقى إنذارات بالحظر وتوقيف الحساب، لكنني صراحة، لم أهتم بها كثيراً لسببين رئيسيين: الأول أن انفعالي وتأثري بالأخبار والمقاطع التي توثق ما يكابده إخواننا في فلسطين جعلني أقتنع بأن من العار عدم القيام بأي شيء من أجلهم ولو كان رمزياً، وقد كان استشعار التعاطف بقلبي والتعبير عن الغضب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي هو أقصى ما كنت أستطيع تحقيقه، فقررت أن أستمر..
أما السبب الثاني، فتجلى في كوني اعتبرت الأمر مجرد تهديدات واهية، فتجاهلتها متسائلة بسخرية: كم عدد الحسابات التي ستتبقى بعد أن يتم إغلاق جميع الحسابات التي تنشر محتوى يهدف إلى التضامن مع فلسطين وفضح جرائم إسرائيل؟ (علماً أن صفحتي الرئيسية كانت خلال تلك الفترة ممتلئة عن آخرها بمحتوى شبيه بالذي كنت أنشره، وبمنشورات يعلم أصحابها بتوصلهم بنفس التنبيهات التي وصلتني).
لم أتوقف إذاً ولم آبه لإدارة الفيسبوك ولا ما سمته مخالفات قواعد الاستخدام التي كانت تسخرها كفزاعة تحاول من خلالها التعتيم على القضية وتكميم الأفواه وقمع أشكال التعبير عن التضامن مع فلسطين، بل على عكس ذلك، صرت مقتنعة بأن المحتوى الإلكتروني قادر على أن يزعج ويشوش ويؤثر على مستوى أكبر مما كنت أتخيل، وأصبحت أؤمن بالدور الذي يمكن أن نلعبه جميعاً من خلال كلمة أو صورة فقط، قادرة على الإسهام في إحداث التغيير وصناعة الحدث.
نتيجة لاستمراري في النشر، تم منعي من الولوج إلى حسابي مع توقيفه مؤقتاً لمدة شهر، إلى حين التأكد من رصد المخالفات وحذفه بشكل نهائي إن حصل الأمر.
وقد حصل فعلاً، حسب فيسبوك الذي يضع القوانين ويصدر الأحكام ويطبقها على هواه، فتم الإغلاق دون شرح أو تفسير يعفيني من محاولات فهم فاشلة قمت بها وأنا أتساءل بغضب: "بأي حق يصادر الفيسبوك، وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، حق البعض في أن يعبروا عن رأيهم ويكرروه على مسامع العالم، عشرات ومئات بل آلاف المرات حتى إن اقتضى الأمر؟ بأي حق يستهدف فيسبوك بعض الفئات ويحاول إخراسها؟ بأي حق يشل حركة البعض ويوقف حساباتهم أثناء فترة انضمامهم لحملات إلكترونية سلمية تماماً ولا تحرض على العنف بل تندد به؟ بأي حق يقيد فيسبوك حرية مستخدمين دون آخرين ويضع عراقيل أمام طرف من أجل مصلحة طرف آخر؟ بأي حق ينصب فيسبوك نفسه حكماً يفصل في القضايا ويعرف المصطلحات؟".
أسئلة كثيرة طرحتها على نفسي وتقاسمتها مع أشخاص آخرين منهم من تعرض لنفس الشيء بالضبط وشعر بنفس إحساس الغبن..
نعم هو إحساس بالغبن، وأتفهم كون البعض سيجد الأمر تافهاً ولا يستحق كل هذا الشرح، إلا أن هناك حتماً من سيجد في التجربة شيئاً يهمه أو يمسه أو حتى يفتحه عينيه على أبعاد أكبر للموضوع، وسأذكر هنا بعدين اثنين أثّرا في بشكل خاص:
المسألة متعلقة بقضية، وفيسبوك ساحة للمقاومة الإلكترونية:
وضعت نفسي للحظات مكان الفلسطينيين الذين يعانون الأمرين في حياتهم الواقعية اليومية؛ وتخيلت كيف سيكون إحساس النشطاء الذين يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، ليس فقط لاستمداد القوة من أشكال التضامن والدعم التي يعبر عنها الناس حول العالم من أجلهم، بل أيضاً لإيصال صوتهم وبث الحقائق ونقل الأحداث؟ كيف سيشعرون أمام جهود تسعى لحظر تواجدهم وطمس الحقائق التي يحاولون كشفها؟ إلى أي درجة ستشتعل حرقتهم ويتعمق إحساسهم بالظلم وهم يجدون أنفسهم في مواجهة تضييق مستمر في العالم الافتراضي والعالم الحقيقي؟ كيف سيشعرون وهو يقاومون محاولات سلبهم هويتهم الافتراضية أيضاً؟ كيف سيكون إحساسهم وهم يرون جهات تضع العراقيل أمام جهود التعريف بقضيتهم وتعبئة الناس لمناصرتها؟
إحساس مرير حتماً، لكنه لن يقهر الفلسطينيين الذين لطالما جابهوا الموت في حياتهم اليومية الحقيقية، وواجهوا التهديدات الحقيقية، وتحملوا الصعاب الحقيقية، ووقفوا في وجه بنادق ودبابات حقيقية، وأحبطوا محاولات استيلاء وسلب حقيقية.. لن تنجح أبداً محاولات المنصات الافتراضية في تثبيط عزيمة من قدموا أرواحاً حقيقية دفاعاً عن قضية حقيقية!
المسألة متعلقة بحياة إلكترونية، وفيسبوك قادر على أن ينهيها في لحظة:
حين توصلت بالإشعار الذي يفيد إغلاق حسابي بشكل نهائي، شعرت بصدمة؛ أدركت وقتها أن الأمر لم يكن مجرد تهديد وأن فيسبوك كان جدياً في عزمه على طردي، بل أكثر من ذلك، مسح أي أثر لي داخل نظامه؛ بضغطة زر فقط، ألغى وجودي ولم يترك أي بقايا تمثلني أو تثبت أنني مررت من هناك يوماً.. قتلني إلكترونياً ومحا كل ما يرتبط بي، فاندثر الكائن الفيسبوكي الذي كنت أمثله، وتندثرت معه أشياء مميزة وخاصة كانت تختزل ذكريات وإنجازات وعلاقات وأحداثاً شهدتها أرجاء ذلك الفضاء الذي كنت أظن أنني أمتلكه واكتشفت أنه هو من يمتلكني.
في الواقع، ربما لم يحتَج الأمر حتى ضغطة الزر التي تحدثت عنها، وربما تقتصر فقط على إعدادات أوتوماتيكية تتحكم فيها أنظمة عمل فيسبوك وغيره من منصات التواصل الاجتماعي، كانت كفيلة بأن تمحيني وغيري من الوجود.
سلبني فيسبوك، كما سلب الكثيرين، كلمات صغناها من القلب ونشرناها للعلن، وآراء عبرنا عنها وتغيرت بعضها مع مرور الوقت، وترهات شاركناها مع الآخرين في مرحلة عمرنا الفيسبوكية البريئة وصرنا نضحك عليها بعدما نضجنا نسبياً، وكلمات دونّاها على صفحات أشخاص آخرين وعبرنا بها عن مشاعر تجاههم أو قدمنا إطراءات تجعلهم يبتسمون كلما نظروا إليها، ورسائل كثيرة شخصية منها التي كنا نعتزم الحفاظ عليها إلى الأبد كشيء ثمين يعني الكثير بالنسبة إلينا.. أخص بالذكر الرسائل التي تبادلناها مع من نحب، وخصوصاً، تلك التي جمعتنا بأشخاص فارقتنا معهم الحياة أو الموت؛ هذا الجزء بالضبط هو أكثر ما وجدت صعوبة في تجاوزه.
في النهاية، هي نهاية حياة افتراضية، ورغم كونها مؤلمة فهي لا تعني عدم وجود إمكانية بدء حياة أخرى؛ فقد فتحت حساباً جديداً، وبدأت تجربة أخرى، لكنني لم أعُد أنظر أبداً إلى فيسبوك أو لغيره من مواقع التواصل كما كنت أنظر من قبل. صرت مدركة لفكرة مفادها أنه إذا لم أعامله كمنتوج أسخره لمصلحتي، فسيسخرني هو كمنتج يستهلكه ثم يرمي به حين يكتفي منه؛ وقد قررت ألا أسمح بمعاملتي كذلك!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.