أول ما يتراءى لي عندما يقول أحدهم "فلسطين"، مشهد محمد الدرة وهو بين ذراعي أبيه، محتمياً من وابل رصاص يتساقط عليه من كل صوب، حينها كنت طفلة، وجل ما كنت أشعر به وقتها هو استيائي من أن طفلاً مثلي يستلقي على الأرض في زاوية منكمشاً على نفسه بهذه الطريقة، خوفاً من شيء لم أكن أفهمه بعد، حينها لم أقدر على استيعاب الموقف، وكانت الأسئلة تتسارع في عقلي واحداً تلو الآخر؛ فكنت أسأل حالي مَن هؤلاء الذين يحملون بأيديهم هذه الأسلحة الكبيرة؟ ولمَ يستهدفون طفلاً صغيراً بهذا الشكل؟ وأي جريمة قد يكون طفل مثلي قد ارتكبها ليحاصَر من قِبل هؤلاء حاملي الأسلحة الكبيرة إلى هذا الحد؟
كانت تتصارع كل هذه الأفكار بعضها مع بعض في عقلي في آن واحد، ولأني كنت صغيرة لم أكن أعي بعد أنه قد استُشهد بالفعل، ربما لأن كلمة "استشهاد" كانت كبيرة جداً على طفولتي وطفولته، وما إن فسّرت لي أمي أن حاملي السلاح قد قتلوه، ازدادت دهشتي أكثر، فبأي ذنب يُقتل طفل صغير بين أحضان أبيه على مرأى ومسمع من الجميع بدم بارد؟
هكذا عرفت فلسطين، أو بالأحرى كانت هذه الحادثة الأولى، التي ساهمت في تكوين وعيي كطفلة عن قضيتنا في فلسطين، وعندما أحاول أن أعيد ترتيب الأحداث في ذاكرتي، لا أذكر إلا أن شكل الخريطة، وألوان العلم، وأسماء المدن الحقيقية كانت من أول الأشياء التي عرفتها عن فلسطين، حتى صارت محفورة في ذهني، أسترجعها -عندما أود- دون أدنى مجهود، لأنها مطبوعة في ذاكرتي، كما أذكر أن أول معلم تعرفت عليه هناك كان مسجد قبة الصخرة بالقدس، أذكر أن صورته كانت معلقة في منزل جدتي في غرفة المعيشة، حيث نقضي معظم وقتنا، هكذا كان كل شيء نصب أعيننا منذ أن كنا أطفالاً؛ كبرنا على أن لنا قضية تُسمى "فلسطين"، كبرنا على ألا نغضّ الطرف عما يحدث، على ألا ننسى، على ألا نكف الدعاء لإخواننا، كبرنا على إحساسنا بالعجز تجاههم، وعلى شعورنا الدائم -غير المنقطع- بالذنب؛ نشعر بالذنب لأننا لسنا معهم، لأننا نرى الظلم يستشري يوماً بعد يوم، ونحن عاجزون عن إنقاذهم أو اللحاق بهم، كبرنا على أن ما في وسعنا محدود لدرجة قد تصيب الإنسان بالجنون.
وفي خضم ما يحدث الآن في غزة، شعرت أنه لا بد أن أكتب، ولو جزءاً صغيراً مما يدور في عقلي، ففي الوقت الراهن يُهيمن عليّ الشعور بالعجز والغضب تجاه كل ما يحدث؛ أغضب من عجزي، ومن عجز كل الناس من حولي، وعندما يشتد عليّ العجز أدعو الله أن يرينا عجائب قدرته في من عادانا وتجبّر على إخواننا، وبينما كنت أدعو الله، آتاني شعور مختلف، أو ربما أتتني فكرة لم تخطر ببالي من قبل؛ خطر لي أن دورنا ومسؤوليتنا لا تتوقف عند معرفتنا بالقضية وفهمنا لها، فنحن مسؤولون عن تكوين وعي الأجيال القادمة؛ قضيتنا قضية نتوارثها عبر الأجيال حتى ننتصر، ومن ثم خطر ببالي أنه في يوم من الأيام سيكون لدي أطفال، وحينها سيكمن دوري في أن أعلمهم كل شيء أعرفه عن فلسطين -كما تعلمت:
كخطوة أولى سأطبع لهم الخريطة الأصلية لكل مدن فلسطين بأسمائها الحقيقية قبل أن تُمحى من كل المصادر، وسأعلمهم أنها تُدعى "يافا" وليست كما يسميها العدو، سأعلم أولادي أنهم ليسوا "مدنيين" وليسوا "مستوطنين"، بل إنهم "المعتدين المحتلين"، هؤلاء مَن ينامون بأسرّة ليست ملكهم، من يأكلون على طاولات ليست لهم، من يسندون رؤوسهم على جدرانٍ لم يبنوها بكفوفهم، معتدون قبل أن يفرشوا سجاداً -يَدعون أنه لهم- مسحوا دماء أصحاب الدار الأصليين؛ دماء أصحاب الدار الأصليين، التي أُريقت برصاصهم، وفوق السجاد المكسو بالدم وضعوا الطاولة، وعلى الطاولة وضعوا رغيف خبز نهبوه من فم طفل لم يكن يملك غيره في طريق ذهابه للمدرسة، سأعلم أولادي أن حقيقتهم أبشع وأنذل من كل ما أقول ومن كل ما أشرح، سأعلم أولادي أن يقرأوا كتب التاريخ مثلما فعلت، وأن يسمعوا القصة الكاملة من أصحاب الحق كما أفعل حتى يومنا هذا؛ سأروي لهم روايات غسان كنفاني، الذي دَوّن وكتب عن كل ما عاشه منذ أن هُجّر من بيته غصباً عام ٤٨ إلى أن قُتل غدراً برصاص العدو.
سأروي لهم عن رحلة مريد البرغوثي لرام الله، وعندما أخبرنا محمود درويش أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، وسأريهم كاريكاتير ناجي العلي كي يتعرفوا على حنظلة وعلى كل ما عاناه رغم صغر سنه وطفولته، حتى يتعلموا -كما تعلمت- كيف تُحكى القضايا الكبرى وتُعاش، سأعلم أولادي ألا تَصالُح بيننا وبينهم؛ فدم إخواننا لا يستوي بدم الغريب، سأعلم أولادي أن يروا الحق حقاً ويبتعونه وألا يخافوا اتباعه، ولا الحديث عنه بصوت عال، ولا الدفاع عنه، سأعلم أولادي أن شعورنا بالعجز جزء من إدراكنا بالقضية، سأعلمهم كل ما تعلمته حتى يومنا هذا وكل ما سأتعلمه.
وعندما خطر كل ذلك ببالي شعرت أنه في يوم من الأيام ربما أستطيع أن أحدث فارقاً -وإن كان بسيطاً- بأن أربي أولاداً يرون الحق حقاً ويتبعونه؛ أولاداً يرثون تاريخنا ويورثونه لأولادهم، أولاداً لا يخافون أن يقولوا الحق، شجعان لا يخافون الدفاع عنه، يشعرون بالكثير من العجز تجاه كل ما يحدث وبالكثير من الحنين لكل لحظات النصر، التي لم تأت بعد، ولكنها بإذن الله آتية.
أعي تماماً أن هذا المقال لن ينقذ أحداً، ولن يوقف الحرب المشتعلة في غزة، ولكني أحاول أن أفعل ما أجيد فعله؛ أحاول أن أكتب، علني ألفت انتباه من لم يُعر القضية اهتمامه بعد، علني أُذكّر مَن نسي غزة أن القصف لا يزال مستمراً، وأن الوضع يزداد سوءاً في كل لحظة، وأن القضية ليست "تريند" نركض وراءه بضعة أيام، ومن ثم نتركه على جنب، اليوم لا أكتب مقالاً سياسياً أو تاريخياً، بل أكتب قصة إنسانية منذ أن ولدنا وهي جزء أصيل لا يتجزأ منا، قصة نتوارثها عبر الأجيال على مدار 75 عاماً، اليوم أكتب ما أعرفه عن القضية بمنظور طفلة من جيل التسعينيات؛ طفلة كبرت على أن القدس عربية، وعلى أن الأرض فلسطينية، وعلى أن الله قد وعدنا أن الحق سيعود لأصحابه في يوم سينطق فيه الحجر، وستتحدث فيه الأشجار مفصحة عمن يختبئون خلفها.
وفي النهاية أذكر حالي وإياكم ألا نتقاعس عن فعل أي شيء نستطيع القيام به لنشر الحقيقة ولتذكير العالم بالقضية؛ تحدثوا بصوت عال عما يحدث في غزة في كل مكان وبكل الطرق: دونوا الأحداث يوماً بيوم، وانشروا مقاطع القصف والعدوان، واكتبوا كل ما تعرفونه في شكل تدوينات أو مقالات، تحدثوا عما يحدث لإخواننا بكل لغة أجنبية تجيدونها على جميع المنصات، وأعلنوا عن موقفكم بحزم ووضوح ولا تلتزموا الحياد؛ فالحياد في هذه المواقف خيانة وخذلان، ونحن عرب؛ عرب ذوو مروءة لا تطأ رؤوسنا إلا لله، ولا تهاب ألسنتنا قول الحق، ولا تتهاون ضمائرنا في اتخاذ المواقف، التي تُرضي الله ورسوله، ومن كل قلبي أعتذر لكم جميعاً عن قلة حيلتي، وعن ضعفي أمام كل ما يحدث لكم، ما في وسعي قليل جداً، ويدي عاجزة تماماً عن كف الأذى عنكم، ولكن الله ربي وربكم أعلى وأكبر وأرحم؛ أعلى من صوت قصفهم، وأكبر من مكرهم، وأرحم عليكم وعلينا من أحضان أمهاتنا، أستودعكم في أمان الله، الذي لا تضيع ودائعه، حتى نلتقي ذات يوم، حيث لا حزن ولا ألم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.