عندما نتحدث عن غزة، نجد نفسنا أمام القطاع المعجزة في تحديه وصموده، وفي المقابل أمام نكتة رديئة تسمى "الإنسانية"، فغزة وإن كانت قطاعاً ضيّقاً من الأرض، إلا أنها وبالرغم من صغر حجمها، فإنها تحمل أعباءً هائلة على عاتقها.. إنها منطقة تعيش تحت الحصار منذ أكثر من عقد من الزمان، وتعاني من الفقر والبطالة ونقص الخدمات الأساسية.
غزة التي لم يكتف العالم بنسيانها، يجتمع "العالم المتحضر" اليوم لسحقها، فها هي ماكينة الاحتلال الإسرائيلي تواصل قتل وحصد أرواح المواطنين الآمنين في بيوتهم والذين وصل عددهم حتى تاريخ كتابة هذا المقال فقط إلى أكثر من 7 آلاف شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء، كل ذلك بدعم العالم المتحضر وحكوماته، فالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا أعلنت دعمها الكامل لإسرائيل لإكمال عمليات الإبادة الجماعية في غزة.
يحارب "العالم المتحضر" كل أشكال الإنسانية في ازدواجية واضحة، فيما يدعو لحقوق الإنسان ضمن حدوده يدفع لسحق كل إنسان خارجها، ولا سيما في غزة؛ تلك البقعة الجغرافية التي لطالما حاول العالم تجاهلها لقتلها ببطء دون صخب.
ولا تكمن مشكلة غزة في الاحتلال الإسرائيلي والدعم غير مشروط من المعسكر الغربي الذي يقف خلفهم فحسب، وإنّما في أولئك الذين يتشدقون بالعروبة والإسلام، أولئك الذين يقتلون غزة بصمتهم وجبنهم وعجزهم وشللهم.
لقد كشفت غزة اللثام عن حقيقة قوة الذين يفترض أن يكونوا قادة على أمة المليار! فأثبتت أنهم ليسوا أكثر من قادة في عناوين في الأخبار لا أكثر.
أنظمة عربية تشجب وتستنكر، وأخرى تحتفظ بحق الرد منذ سنوات.. وجماعات ما زالت تحذر من رد عسكري.. شعارات جوفاء ولّى عصرها.. بينما يبقى الشعب الفلسطيني وحيداً، لا يعلق أي آمال على أنظمة، أمله كله في الشعوب الحرة التي لا ترضى أن تعيش مذلولة، شعوب تعرف معنى الألم والخذلان، شعوب لا تملك إلا إرادتها الحرة.
لقد اعتاد العالم على سحق النبلاء والبكاء عليهم فيما بعد بل والتربح منهم، فمنذ عقود كانت قصة المناضل الأممي أرنستو تشي جيفارا الذي وقف الجميع صامتاً عندما قتله العالم المتحضر أيضاً حينها، ثم باعوا صورته عندما وجدوا فرصة لتسليعه والتربح منه كأيقونة إنسانية، واليوم غزة التي يقتلها الجميع، يغض العالم الطرف عن قتل أطفالها، لكن لا عجب أن البعض سيتربّح من صور دمارها وأشلاء نسائها وأطفالها المتناثرة فيما بعد في داخل متاحف العالم المتحضر، إذا ما نجح الأخير في سحقها وتحويلها لغزة رمز المقاومة والفلكلور الإنساني في العالم.
منذ قرونٍ بعيدة كانت قصة دخول النبي موسى مع الخضر عليهما السلام لقرية كان أهلها بخلاء لؤماء، امتنعوا عن ضيافتهم وإطعامهم، ورغم ذلك، حينما وجدا جداراً عظيماً في القرية على وشك الانهيار، شمّرا عن سواعدهما وبنيا هذا الجدار.. تماماً كما هي غزة التي تدافع اليوم بدماء أبنائها الزكيّة عما تبقى من شرف الإنسان الحر وكرامته، رغم تخاذل وعجز أنظمة العالم.
آهٍ يا غزة الحبيبة، كم من الأحلام والجثامين الطاهرة ابتلعت أرضك، متى يحين صيامك!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.