منذ بداية الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة الفلسطيني، ترددت كلمة "العالم المتحضر" على لسان رئيس أكثر من دولة غربية، وكذلك رددها مسؤولون كبار في المؤسسات الأوروبية، وقيادات كيان الاحتلال الإسرائيلي، ونتساءل: أين يقع هذا العالم، وما معايير تقسيم البلدان؟ وهل الديانات واللون والعرق هي أحد المعايير؟ مثلاً فرنسي مسيحي أسود يعتبر مواطن دولة متحضرة، بينما مواطن صومالي مسلم أسود يعتبر مواطناً من بلد غير متحضر، أو بكلمة أقسى بلد متخلف!
من الواضح أن العالم ما قبل "طوفان الأقصى" ليس كالعالم بعده، وصحيح أننا مقتنعون تماماً بأن الشعب الفلسطيني مظلوم في عدم حصوله على حقة في تحرير وطنه، لكن أيضاً علينا التفكير بهذا المفهوم الذي برز كثيراً خلال الأيام الماضية، وهو مفهوم "العالم المتحضر"، وربط ذلك بما يحدث من إبادة جماعية يتعرض لها الشعب الفلسطيني بكل الوسائل، نتحدث عن منع وصول الكهرباء والماء والغذاء والوقود لقرابة مليونين ونصف المليون إنسان مدني، ومن ثم قذف القنابل الفتاكة على البيوت والمساجد والمستشفيات وغيرها من الأماكن التي يستخدمها المدنيون الفلسطينيون، وثبت تماماً أنها لا تحتوي أي شيء يتعلق بالمقاومة الفلسطينية.
وفق تصنيف الغرب ونتنياهو فإن الشعب الفلسطيني غير المنتمي للعالم المتحضر ليس فقط من هم في قطاع غزة، بل والمدنيين في الضفة الغربية، الذين يتعرضون للقتل المتعمد من قطعان المستوطنين وجنود الاحتلال، ولا يدافع عنهم أحد، مع الأخذ بعين الاعتبار أنهم لا يمتلكون السلاح، وحتى السلاح الذي يتواجد مع موظفي "سلطة أوسلو" فإن تم استخدامه يتم توجيهه في وجه المتظاهرين الفلسطينيين المتسلحين فقط بالهتافات، ما هذا الهوان الذي وصلنا إليه.
ومن هنا نتساءل: هل تم تصنيف الشعب الفلسطيني من "العالم غير المتحضر" لأنه عربي، أو لأنه في غالبيته مسلم، أو ما معايير التصنيف؟ هل دعم غالبية الشعب الفلسطيني لحقه في التحرير وكأنه أحد هذه المعايير؟ هل دعم التنظيمات الفلسطينية التي تعمل على تحرير وطنها وشعبها مخالف للتحضر؟ هل دعم العملاء بائعي وطنهم يعتبر من مظاهر التحضر؟
قرار العقوبة الجماعية بإبادة شعب كامل محاصر في منطقة جغرافية صغيرة، منذ أن فازت حركة المقاومة الفلسطينية حماس في الانتخابات التشريعية، عام 2006، هو أحد القرارات غير الإنسانية التي تدعمها وتنفذها الدول المتحضرة، نحن لا نتحدث عن معايير مزدوجة فحسب، لا أجد التعبير المناسب ولا الكلمات التي توصل رسالتي، قد تكون هنالك كلمات غير لائقة توصل الرسالة، ولكن شخصياً أصنف نفسي كما أصنف الشعب الذي أنتمي إليه بأننا أصل وأهل الحضارة الإنسانية، في الماضي والحاضر، ولذلك أترفّع ليس عن دعم إبادة الشعوب، بل وأترفع حتى عن استخدام كلمة غير لائقه، مَن بالله عليكم "غير المتحضر"؟!، طبعاً معايير تصنيفي تختلف جذرياً عن معايير تصنيف الدول المتحضرة!
خلال الإبادة الجماعية التي لا ترتكبها إسرائيل فحسب، بل ترتكبها أمريكا والدول الغربية، ليس هم فحسب، بل الكثير من العالم المتخاذل، الموصوف بالمتحضر، خلال هذه الإبادة قدمت حركة المقاومة الإسلامية، بل قدمت المقاومة الفلسطينية دروساً في التحضر وشرف القتال، أطلقت سراح بعض مَن تم أسرهم بالخطأ، ليس ذلك فحسب، بل وصفتهم بالضيوف، ولم تنعتهم بالأسرى، هذا والشعب الفلسطيني يتعرض للإبادة، ألم يكن بإمكان المقاومة أن تضع جميع من سقطوا بين يديها في السابع من أكتوبر، مكبلين على أسطح المباني والمساجد والمستشفيات، لكي يحرجوا قوات الدول المتحضرة؟
فعلاً نحن شعوب غير متحضرة، كان يجب أن نقدم فلسطين على طبق من ذهب لقطعان المستوطنين، ليس بلدنا جغرافياً فحسب، في العالم الغربي أصبحت "المثلية" سلوكاً قانونياً، كان علينا أن نكون "مثليين" جسدياً وفكرياً لكي ترضى عنّا دول الغرب المتحضرة، لعلها تضعنا في معاييرها، ونصبح في الطريق الصحيح للحضارة، حضارة إبادة الأطفال والنساء.
أشعر بالاشمئزاز عندما أستمع مضطراً لشخص مثل بايدن أو ماكرون على قناة الجزيرة، وهم يتحدثون عن بذل الجهود لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، وبالوقت نفسه تتم إبادة هؤلاء "غير المتحضرين" بأسلحة صُنعت في عواصمهم، مشاعر مقززة تتملكني، قرأت كثيراً عن هولاكو أو دراكولا أو غيرهما من المجرمين، لكن لا أعلم إذا كان هنالك في تاريخ البشرية من هم أقذر من هؤلاء المتحضرين الغربيين، الذين يرتكبون إبادة جماعية بحق شعب يعلّم البشرية جمعاء معنى الحضارة، وقد أحسن وزير الخارجية الأردني في دقة توصيفه للموضوع، عندما تحدث في الأمم المتحدة عن الإبادة قائلاً: إننا نشعر بأن هذه حرب بين الغرب والعرب والإسلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.