هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا.
(رضوى عاشور)
لم يكن ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول محض صدفة، أو حالة غضب آنيّ، بل كان نتاج تراكم هائل من الكبت، والقهر، والحرمان، والمظلومية، فلم تُرسم اللوحة التحررية الثورية التي حدثت في السابع من أكتوبر بفعل ظروف عادية؛ بل كانت ناتجة عن حالة احتقان ثوري كبير، فالحصار الحديدي لقطاع غزة على مر السنين، والحرمان من كل مقومات الحياة الكريمة، ولّد حالة من الانفجار كالبركان فى وجه أبغض احتلال عرفته البشرية، هذا الانفجار التحرري الذي يتضح في معنى تحويل الشعوب لنفسها من العيش في حالة "الصدمة المختارة" إلى العيش في حالة "مجد مختار". سيراً على قاعدة "إن الانتصار هو أن تتوقع كل شيء، ولا تجعل عدوكَ يتوقع".
فالشعب الفلسطيني خضع على مدى سنين طويلة للاحتلال الخانق، فالفلسطينيون رأوا أرضهم تلتهمها المستوطنات، ويعمها العنف، واقتصادهم يخنق، وشعبهم يشرد، ومنازلهم تهدم، وآمالهم في حل سياسي لمعاناتهم تتلاشى.
ولعل المشاريع التصفوية للاحتلال الإسرائيلي كانت مستمرة دائماً ولا تنتهي ولا تقف عند أي سقف، هذه المشاريع التي تتعدد وتشمل مختلف نواحي الحياة ومختلف نواحي الصراع، تبدأ هذه المشاريع بضرب كل ما هو فلسطيني واجتثاثه مثلما حدث في النكبة عام 1948 من خلال التحول الوحشي، مروراً بمشاريع تكثيف الاستيطان بشكل لا متناهٍ، وبناء المستوطنات على كل بقعة أرض فلسطينية يمكن أن تُقام عليها مستوطنة، مروراً بهدم المنشآت الفلسطينية والمحاولات الملتوية لتهجير الفلسطينيين من خلال التضييق الكبير عليهم وتقييد كامل حريتهم، مروراً بمشاريع تمزيق فلسطين إلى "كانتونات" مترامية هنا وهناك، وضخ مشاريع إحلالية خطيرة وكبيرة، مروراً بتكريس مشاريع دولية تتناغم مع الاستعمار الإسرائيلي لضرب ما تبقى من القضية الفلسطينية، مروراً بمشاريع تدنيس المقدسات الفلسطينية سواء أكانت إسلامية أم مسيحية، والإمعان في تدنيس هذه المقدسات، والرغبة في تحويل الصراع وجرّه نحو الصراع الديني بدلاً من كونه صراعاً ضد الفكر الاستعماري، الإحلالي، التوسعي، العنصري.
ناهيك عن مشاريع الحصار والخنق الاقتصادي للفلسطينيين لجعلهم فقط عمالاً في دولة إسرائيل لتكبيل حريتهم الاقتصادية والمعيشية، مروراً بمشاريع إقامة الحواجز على المناطق الحيوية والاستراتيجية الفلسطينية وإعاقة حركة المواطنين والتحكم بهم والإغلاق عليهم متى شاء هذا الاحتلال، وإقامة جدار الفصل العنصري وتقييد وكبح حرية الفلسطينيين، مروراً بمشاريع تعميق يهودية الدولة على حساب ديمقراطيتها، وتعزيز الطابع اليهودي بشكل جلي، وشرعنة التمييز والأبارتهايد من خلال القوانين العنصرية، وتنامي الفكر اليميني المتطرف داخل الدولة الإسرائيلية الذي يشرعن استباحة الدم الفلسطيني، ومروراً بمشاريع التشويه الفكري والثقافي تجاه الفلسطينيين، وكيّ الوعي الفلسطيني وتسطيحه لمحاولة تدجين معالمه.
ذلك النهج الاستعماري كله لا يريد السلام، ولا يرى حلاً غير ابتلاع فلسطين كلها، وذلك يتضح من خلال النظر للفلسفة التي يتبعها الاحتلال مع الفلسطينيين، والتي يسعى بها لتقليص الصراع لا حلّه، فنجد أن أقصى ما هو مُستهدف لديه وفي أفضل الظروف إقامة كيان فلسطيني مشوّه بمثابة دولة من "كانتونات"، بينما يتم تكثيف الاستيطان بكل أشكاله، وقتل كل ما هو تحرري فلسطيني، واستئصال الوعي، واغتيال الفكرة برمتها.
إن أية حلول غير المقاومة هي وهم بالحرية، ووهم بالسيادة، ووهم ببناء الدولة، لذلك يدرك كل فلسطيني: "بأننا لا نُريد قيوداً مريحة؛ بل نُريد إزالتها تماماً، فلا حل إلا بزوال هذا الاحتلال الإحلالي، لا بجعله أكثر مرونة".
تحاول إسرائيل، منذ أن بدأت عدوانها الوحشي على غزة، إحداث إبادة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بدعم وتأييد من الدول الاستعمارية القديمة التي طالما وقفت أمام كل الدول الباحثة عن حريتها، وشيطنتها، وتصويرها على أنها متخلفة، ومعاقبتها اقتصادياً.
لذا لا عجب من موقفها اليوم، ومن وصم المقاومة بكل أشكالها وما يتصل بها بالإرهاب، إن الشعب الفلسطيني في غزة اليوم يضع العالم كله في لحظات فارقة، إذ تنزع عن العالم رداء التحضر، وتكشف أن الصراع في فلسطين ليس ضد الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل صراع ضد كل القوى الاستعمارية الإحلالية التي صنعت ودعمت الاحتلال الإسرائيلي مادياً وفكرياً.
يتبع الاحتلال الإسرائيلي اليوم نهج "عقيدة الصدمة" بحق الفلسطينيين في غزة، والتي أساسها يقوم على ضرب البلدان بشكل شديد السرعة والفتك، وصناعة الأزمات المهولة، وخلق حالة طوارئ، مع إحداث دمار واسع في شتى المجالات، وجعل الناس يعودون إلى حياة الفطرة الأولى، مُفرغين من كل شيء، لا هدف لهم في الحياة سوى البقاء فقط على قيد الحياة، ووضعهم في صراع بقاء بشكل دائم، مع توجيه الصدمات المتتالية لهم لضمان إفراغهم تماماً من محتواهم وإنسانيتهم، وضرب قضاياهم ومعانيهم في الحياة، ووضعهم في حالة شديدة القسوة تعمل على إخضاعهم وتفتيت معالم عقولهم وأفكارهم، من خلال القوة التدميرية الهائلة شديدة البطش والترويع والتقتيل.
هذا النهج الذي سيفشل، وهذه العقيدة التي تقوم على الصدمة، لن يكتب لها النجاح؛ لأن قوة إرادة الفلسطينيين ستتفوق على إرادة قوة الاحتلال، وستُفشل مساعيه الإحلالية، فجرائم الإبادة تتوالى فصولاً دموية، دون أن يرفع الفلسطيني راية استسلام.
إن ما يقوم به الاحتلال هو جنون فائض لقوة غاشمة مضطربة؛ تتغذى من عقيدة القتل، والحرق، والمحو؛ التي تصوغ فكر وسلوك الجناة؛ الذين لا مهنة لهم؛ سوى الترويع، وسفك الدماء، والإمعان في ممارسة الإعدامات المتنقلة؛ التي تتغذى من عقيدة تعتنق ارتكاب المزيد من جرائم القتل والإبادة.
بينما الحرب ليست غاية لدى الفلسطينيين؛ بل وسيلة لصنع السلام على أرض فلسطين، ولعل هذا ما يوضّح كيف في خضم السلام والهدوء، لا يتخلى الشعب الفلسطيني عن حقه المشروع في الثورة وردع الاحتلال.
العمل الثوري يزرع والعمل السياسي يحصد
ثمن الحرية كبير، وهو أمر بحاجة الى جهد عظيم وإيمان تحرري؛ مقاومة محبوكة بقوة وبحرفية تحررية عالية، وأفكار خلاقة مستمرة، واستراتيجيات عقول وأدمغة، ووعي ثوري مهول، لأن الصراع لا بالبندقية وحدها، ففي جوهره هو صراع عقول وأدمغة ومعركة وعي لا متناهية، وهذا يقود إلى جعل الحلم الفلسطيني بالتحرر وإقامة دولته المستقلة واقعاً وممكناً وليس ضرباً من ضروب الخيال.
يتغير الواقع بالمقاومة، أي بالعمل المتراكم لعقود، سواء أكان عسكرياً أم رصيداً سياسياً شعبياً. إن المقاومة الفلسطينية تشمل وتعبر اليوم عن كل المحرومين والمهمشين والمستغلين في هذا الجزء من العالم، مؤكدين على استمرار النضال. نحن لا نبشّر بحقائق، لكن نبصر الواقع وندرك أن الخضوع لن يغير القدر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]