من يستطيع تحمل صور جثث لأطفال ونساء متناثرة في كل الأرجاء؟! بل من يستطع تحمل فكرة أن يتحول المستشفى من ملاذ آمن للجرحى والمصابين إلى مقبرة جماعية لهم، وهو ما يخالف كل القوانين والمواثيق الدولية والأعراف الإنسانية؟!
منذ بداية الصراع بين الاحتلال العربي أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، اشتهر الإسرائيليون بارتكاب أبشع المجازر في حق العرب عن طريق ميليشياتهم وعصاباتهم المسلحة مثل "الهاجاناه" و"آرغون" و"البلماح"، و تكرست هذه السياسة الدموية بعد قيام دولة إسرائيل وتأسيس جيشها، فمن منا ينسى ما قام به سلاح الجو الإسرائيلي من مجازر سواء في مصر أم فلسطين؟!
وبالتمعن في هذه المجازر يتضح لنا بشكل واضح أنها ليست مجرد جرائم عشوائية ناتجة عن سوء تقدير أو خطأ، بل هي سياسة ممنهجة تهدف إلى إرهاب الخصوم وتكريس صورة إسرائيل الدموية التي لا تقهر.
أكدت عملية طوفان الأقصى التي قامت بها المقاومة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتي كبدت فيها الاحتلال خسائر لم يشهدها من قبل، استراتيجية الاحتلال بالهروب نحو العنف والوحشية المطلقة كلما أحس بأي الخطر يهدد وجود دولته، وقد يرى بعض أنه أمر قد يكون عادياً في تاريخ الحروب المليء بالمجازر والإجرام، لكن في حالة الاحتلال الإسرائيلي يختلف الأمر في عدة جوانب، يمكن اختصارها في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: استعماله للعنف غير مبرر والذي يتعدى حق الرد، كان ذلك أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة.
النقطة الثانية: اللجوء لهذا الشكل من العنف بشكل مباغت، بمعنى أنه يقوم به دائماً في حالة سلم أو شبه حرب، كما اتبع نفس الأسلوب مع مصر خلال ما سمي بحرب الاستنزاف.
أما عن النقطة الثالثة والأكثر أهمية في رأيي: فهي اختيار العينة المستهدفة، والتي غالباً ما تكون غالبيتها من المدنيين الأطفال والنساء، ما يضمن صدى أليماً وواسعاً ويكرس صورة الجيش المخيف الوحشي الذي لا يرحم أي أحد يفكر مجرد تفكير في المساس بأمن إسرائيل.
تجتمع كل من عملية طوفان الأقصى أو حرب الاستنزاف أو الثورة الكبرى التي اندلعت في فلسطين عام 1936، في أمر واحد هو مفاجأة الاحتلال الإسرائيلي وتهديده في حصونه.
إذ بعد نهاية حرب الأيام الستة أو النكسة كما يطلق عليها العرب، اعتقدت قوات الاحتلال الإسرائيلي أن الجيش المصري يلزمه وقت طويل لكي يتعافى من آثار الهزيمة، وأن الأراضي المصرية أصبحت مستباحة لهم، خصوصاً بعد تدميرهم لسلاح الطيران المصري، إلا أن تصدي الجيش المصري لهم في عدد من المعارك، إلى جانب توغل الفدائيين في قناة السويس، وتعافي سلاح الجو المصري بسرعة، أربك الإسرائيليين وأنقذهم من سكرة الانتصار، لتدفع هيستريا الهلع من الزوال قوات الاحتلال لارتكاب أحد أفظع جرائمها حينذاك، وهي مذبحة مدرسة بحر البقر في الثامن من أبريل/نيسان 1970، والتي راح ضحيتها نحو 30 طفلاً بريئاً، وإصابة العشرات بإصابات بالغة، وتشويه عدد كبير منهم.. فضلاً عن تدمير مبنى المدرسة تدميراً تاماً، وكذلك إلحاق الضرر الكبير ببعض المنازل المجاورة.
قام سلاح جو الاحتلال الإسرائيلي بقصف قرية أبو زعبل في محافظة القليوبية بجمهورية مصر العربية في 12 فبراير/نيسان 1970. واستهدف مصنعاً قتل فيه 70 عاملاً مصرياً، وجرح أكثر من 69 آخرين، كما دُمّر المصنع عن آخره، وكان التبرير في كلتا المذبحتين أن المصنع والمدرسة مجرد ساتر لمنشآت عسكرية للجيش المصري.
وهذا نفس النمط الإجرامي الذي اتبعته عصابة الهاجاناه قبل تأسيس إسرائيل، حيث كانت تتعمد الهجوم ليلاً على أي قرية تبدي مقاومة أو تشتري أسلحة خفيفة لحماية نفسها، لتقوم بذبح أطفالها ودفن شبابها أحياءً، ثم ترك بعض الأهالي أحياءً لينقلوا بشاعة الصورة لباقي القرى المجاورة، لينزح أهلها قبل قدومهم ليستوطنها اليهود القادمين أوروبا.
نفس النمط يتكرر اليوم بعد عملية طوفان الأقصى التي أنهت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فلم يكن أمام إسرائيل إلا اختيار المستشفى المعمداني كي تستعرض عضلاتها، وإعادة هيبتها المفقودة، خصوصاً أنها تعرف أن الغرب ومن خلفه المجتمع الدولي سوف يتماهون مع أي تبرير تقدمه إسرائيل لكي تبعد عنها تهمة قتل الأبرياء والأطفال العزل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.