قلنا قبل الحرب على غزة بعدة أشهر، وكرّرنا، أن الضفة الغربية، وقطاع غزة على وجه الخصوص، يمثلان شوكة في حلق الاحتلال، حيث لا توجد لدى الاحتلال خيارات يمكن من خلالها التخلص من هذه الشوكة، بصرف النظر عن وجود مقاومة أو عدم وجودها. فاستمرار حكم الاحتلال الإسرائيلي لخمسة ملايين فلسطيني، فضلاً عن عرب 48، هو عبء تنوء به الجبال، نتيجة الصراع الديمغرافي والثقافي من جهة، ونتيجة التوسع الاستيطاني الذي لا يسمح بوجود شعبين في الضفة الغربية من جهة أخرى.
هذه الشوكة أحدثت جرحاً عميقاً لدى الاحتلال، الأمر الذي عقّد الموقف بالنسبة له أكثر فأكثر. فاستمرار وجود المقاومة رفع من مستوى التحدي، لتصبح المعركة وجودية بالنسبة للاحتلال. وغياب المقاومة لن يشكّل حلّاً من الناحية الاستراتيجية، حيث لم يؤدِّ التخلص سابقاً من المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، وكذلك فك الارتباط عن غزة، فضلاً عن اغتيال قادة المقاومة، إلى إنهاء القضية، بل على العكس تماماً، فإن التحديات التي تواجه الاحتلال تصاعدت بشكل غير مسبوق خلال العقدين الماضيين.
وتأتي جزئية الاجتياح البرّي في سياق الحرب القائمة على غزة حالياً، لتضع الاحتلال من جديد أمام محكّ صعب، بل وصعب للغاية، فرغم الدعم الغربي اللامحدود للاحتلال، ورغم تدفق الأسلحة، والغطاء السياسي والاقتصادي، ورغم الضربات الجوية العنيفة جداً على سكان غزة، فإن قرار البدء بالعملية البرية ما زال يراوح مكانه، وبالطبع فإن الخلافات السياسية الحادة التي تعصف بحكومة الاحتلال، والمعنويات المنهارة لقطاعات من الجيش، وعدم قدرة أجهزة المخابرات الإسرائيلية على إحداث فجوة يمكن من خلالها جمع معلومات حول القدرات العسكرية للمقاومة، والتي يمكن أن تواجه العملية البرية، فضلاً عن التحول (النسبي) في الموقف الغربي، وتحديداً الموقف الأمريكي الذي بدأ يضغط على الاحتلال لتأجيل العملية البرية لحين استنفاد الجهود لإطلاق سراح "المختطفين" في قطاع غزة، وخاصةً الجهود المبذولة في الساعات الأخيرة، والتي تشير إلى إمكانية إطلاق سراح 50 شخصاً من حملة الجنسيات الأجنبية.
كل ذلك زاد من صعوبة اتخاذ القرار لدى المستوى السياسي الإسرائيلي.
وبالطبع هناك عوامل أخرى أثرت على عدم البدء بالعملية البرية، مثل ضغط الشارع الإسرائيلي على الحكومة بخصوص تحمل نتنياهو مسؤولية الفشل العسكري والاستخباري في مواجهة عملية السابع من أكتوبر، والضغط لإطلاق سراح المختطفين قبل كل شيء. أضِف إلى ذلك التهديد المرعب بالنسبة للاحتلال على الجبهة الشمالية، التي تؤكد جدية حزب الله في خوض المعركة في حال دخل الاحتلال في مواجهة برية مع المقاومة في غزة.
ولكن العوامل التي تضغط بشدة في الاتجاه المعاكس تتمثل في تصميم الاحتلال على القيام بعمل يعيد له هيبته، ويستعيد من خلاله قدرته على الردع، فضلاً عن حفظ ماء الوجه. فهو حتى الآن لم يردّ على عملية السابع من أكتوبر إلا بقصف غزة وقتل الأطفال والنساء، متخذاً من نموذج الكاوبوي الأمريكي في العراق وأفغانستان نموذجاً. إلا أن هذا الرد "التقليدي" الذي يوجع المقاومة من الناحية الإنسانية، خلق أزمة جديدة على مستوى الرأي العام العالمي، من خلال خروج مئات الآلاف من المتظاهرين المطالبين بوقف الحرب على غزة.
فالسياسيون يدركون أن الهبّة الجماهيرية في العالم ليست مجرد حدث عابر يمكن أن يمر مرور الكرام، حتى بعد انتهاء الحرب، ولكن من المؤكد حدوث تداعيات عميقة له على مسار الصراع المستمر منذ أكثر من سبعة عقود في فلسطين، بل وعلى الاستقرار السياسي في المنطقة ككل.
إن حاجة الاحتلال الإسرائيلي لحرب برّية هي حاجة استراتيجية، وهي تفوق المعيقات بشكل كبير، إلا أن خسارة الإسرائيليين في هذه الحالة، وفشلها في القضاء على المقاومة، وتكبدها خسائر فادحة، ستكون نقطة فاصلة في تقرير مصير هذه الدولة التي قامت على أنقاض الوجود الفلسطيني، وبقوة الحديد والنار. وما يزيد الطين بلّة هو تضارب الأنباء في كل لحظة حول قرب أو بُعد البدء بالعملية العسكرية البرية، والأخبار في كل يوم حول التشاور بين القيادتين السياسية والعسكرية الأمريكية والإسرائيلية حول الغزو البري، بل ووصول وفود سياسية وعسكرية واستخباراتية أمريكية إلى تل أبيب، الأمر الذي ينعكس سلباً على معنويات جنود الاحتلال، ويُربك الرأي العام الإسرائيلي، ويشتت جهود القادة السياسيين.
وهكذا، وصلت دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى اللحظة التي تتطلب ضرورة الإجابة عن أصعب سؤال على الإطلاق بالنسبة لها: هل تدخل الحرب البرية وتستعيد كرامتها وثقة شعبها بها؟ أم تمتنع خوفاً من أن تكون هذه الحرب بداية النهاية لوجودها على أرض فلسطين؟
إنها الشوكة في الحلق التي لا يمكن لفظها أو بلعها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.