مجازر، قصف، تشريد، كل ذلك في غزّة، المدينة المُحاصرة التي يسكنها اليوم الموتُ، فـكل شيءٍ فانٍ هنا إلا الموتى، إذ يبدو أن الموت هنا هو الأبديّة لتلك الأرواح النبيلة.
نيران الحرب التي اشتعلت من جديد في فلسطين بعد يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أحس بها العالم بعد أن كنت أعتقد أن ضميره مات وقد دفناه، لكن لا يبدو أن هذه النار ستنطفئ في أي وقت قريب.
في الأيام الأولى من الحرب، حاولت وسائل الإعلام الغربية جعل إسرائيل تبدو وكأنها مظلومة ومعتدَى عليها من خلال إلقاء اللوم على المقاومة، فجيشت إسرائيل وحلفاؤها "المستعمرين القدامى" آلاتهم الإعلامية، محاولين إلقاء اللوم كله على المقاومة، فهب علينا المذيعون الغربيون من قنواتهم المرتبة بعناية التي طالما ادعو منها الحيادية، ليكذبوا بكل أناقة أن المقاومة تذبح الأطفال.
لم تكلف تلك القنوات والمحطات وما وراءها من دعم من التأكد من حبك الكذبة، لكن أعذرهم، فهم يعرفون جيداً أن من السهل رمي أي شرقي بتهمة الإرهاب، إذاً لا داعي لبذل جهد لحبكها، فالمقاومة في غزة وليست في كييف، ولا يوجد بها أسماء كالأكسندر أو روبيرتو، أغلب المقاومين أسماؤهم شرقية أحمد، محمد، عبد الرحمن، فقد فعلوها قبل ذلك في العراق وأفغانستان قبل أن يدمروهما عن غير عمد.
هذا الاستعلاء الاستعماري الذي يصور لهم أن كل ما يقولونه حق دون إثبات، جعلهم يتجاهلون أن العالم اليوم قد تغير قليلاً وأن المقاومة وأهلها يمتلكون صحفيين وأجهزة إلكترونية قادرين بها أن يعروا أكاذيبهم ونشر الحقائق أمام العالم دون الحاجة لمنصاتهم.
بالإضافة إلى أنهم تجاهلوا عن عمد أو استعلاء لا أعرف، أن اليوم ليس من السهل جعل الناس يصدقون أكاذيبهم كما اعتادوا. لأن الذين يريدون الحقيقة قادرون اليوم بأنفسهم على البحث عن الأحداث في فلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي ويرون ما يحدث بالفعل هناك، فما ترتكبه إسرائيل من مجازر وأنهار دم كافٍ لتصوير ويغني عن استخدام الذكاء الاصطناعي لابتكار صور أطفال مزيفة لكسب تعاطف زائف هو الآخر.
يفقد مئات الأشخاص في غزة حياتهم كل يوم منذ بدء الحرب. تنهمر صواريخ الاحتلال الإسرائيلي كالمطر، لا تفرق بين البيوت ولا المساجد ولا الكنائس، ولا تسأل الضحايا عن عمرهم ولا أسمائهم قبل قتلهم، لذا بدأ الأطفال هناك يدونون أسماءهم على أيديهم؛ لعل من يدفنهم يداعب أيديهم الصغيرة قبل أن يضعهم لمرقدهم الأخير في هذا العالم الذي لا يحمل أي شيء من رقتهم.
يتم تنفيذ إبادة جماعية ضد شعب أمام أعين العالم أجمع، لا شيء جديداً يحدث! لكن ما يثير الشفقة أنه يوجد الكثير من المندهشين من أنه لا توجد قوة واحدة يمكنها أن توقف هذه المجزرة، لا الأمم المتحدة ولا الجامعة العربية وجيوشها، ولا حتى نعجتي الصغيرة في أوزبكستان.
وحدها المقاومة هي التي ما زالت تمتلك الشرف لتضحي بنفسها من أجل شعبها، فأنا لا أعرف شعباً تمكنت الأمم المتحدة من جلب حقوقه، كل ما تسعفني به ذاكرتي هو مذبحة مشابهة لتلك التي تحدث اليوم في غزة، مذبحة بدأت وانتهت أمام أعين الأمم المتحدة وقوات حفظ السلام التابعة لها، نعم إنها مذبحة سربرنيتشا، وغداً غزة وغيرها فالعالم لا يأبه بالمهمشين.
رغم إدراكي لمقدار القبح الذي يسكن العالم، أشعر بالحزن والألم الشديدين من مقاطع الفيديو التي أشاهدها عبر الإنترنت: من أب يحاول جمع أشلاء أولاده، الذي مزقهم الانفجار، في كيس؛ وفي صورة أخرى، تحاول أم على وشك الموت أن تداعب طفلها الباكي وتواسيه، تخيل أن الموت مع هذه السيدة كان أرحم من هذا العالم، فأعطاها دقائق وربما ثواني لا أدري لتداعب طفلها قبل أن تصعد روحها لسماء بجوار ربها وتترك ابنها في هذا العالم.
في مقطع فيديو آخر، تظهر فتاة صغيرة تريد الاقتراب من جثة والدتها المتوفاة، فيمنعها الناس هناك قائلين: "هذه ليست والدتك". وفي تلك اللحظة قالت لهم الفتاة: "والله إنها أمي. أعرفها من شعرها. أنا أعرف لون شعر والدتي". يا إلهي كيف يتمالك المسعفون هناك الآن أنفسهم؟ فقلبي وأنا هنا لم يستطِع أن يتحمل بكاءها قائلة: "أمي، عمتي، أخي، الجميع ماتوا". وفي فيديو آخر، يحاول طبيب مواساة طفل تشرق عيناه من الخوف، مفتقداً أسهل الأفعال عليه كطفل: يفقد القدرة على "البكاء" بسبب الخوف الشديد. عيون ذلك الطفل لم تفارقني، بل لا أجد لها كلمات تصفها، العيون المرعوبة، المكسورة، لست متأكداً من أي كلمة تناسب تلك العيون، لكني متأكد من شيء واحد، أنني لن أنسى عيون ذلك الطفل طوال حياتي.
في رواية "عداء الطائرة الورقية" للكاتب الشهير خالد حسيني، أتذكر تعبيراً يقول: "في أفغانستان أطفال كثيرون، لكن لا توجد طفولة". لم أدرك معنى ذلك حينها، لكني عندما رأيت أطفال غزة أدركت أن في فلسطين أيضاً أطفال كثيرون، لكن لا توجد طفولة.
في الحقيقة لم يسبق لي أن رأيت حرباً، ولم أسمع حتى إطلاقاً لطلقة نارية في حياتي، وبصراحة، لا أعرف حتى ماذا كنت سأفعل لو كنت في مثل هذه مذبحة ويشاهدني العالم بكل هدوء. ولهذا السبب فإنني أعجب لهؤلاء الناس الذين ما زالوا يقاتلون ويدافعون عن حريتهم في فلسطين، وأنحني شرفاً لصور الأطفال الذين كان يقفون ضد الجنود المسلحين بالحجارة إذا لزم الأمر، وأريد أن أقبل أيدي تلك الأمهات اللاتي يلدن مثل هؤلاء الأشخاص الشجعان ذوي الروح الحرة.
رغم أن هذه المأساة مستمرة منذ أكثر من 75 عاماً ما زالت لم تتمكن أي قوة من إيقافهم بعد، ربما ستفقد فلسطين عدداً كبيراً من أبنائها وقوتها في هذه الحرب لكنها لن تموت، فدعونا لا ننسَ أن الشعب الفلسطيني رغم الألم يهبنا الأمل ويثبت لنا أنه من الممكن القتال ضد الأقوياء.
هذه الحرب ليست حرب فلسطين وحدها، بل هي حرب كل الأحرار، حرب المضطهدين ضد الظالمين، وقبل كل شيء، حرب العدالة. لم أعد أؤمن بالكثير في هذا العالم لكني ما زلت أؤمن بربي، لذلك أؤمن كما تؤمن المقاومة أن الظالمين سينالون نفس العقوبة يوماً ما. وتلك الأيام قريبة جداً..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.